الحرب العالمية الثالثة

24 اغسطس 2016
+ الخط -
تعيش البشرية، منذ نهاية القرن العشرين، حرباً عالمية، بكلّ معنى الكلمة، وإن اختلفت بالشكل عن سابقتيها، الحرب الكونية الأولى أو الثانية. كانت الأولى تعبيراً عن انسداد الأفق أمام قادة دول العالم المتحضر في صراعهم على تقاسم خيرات الأرض واحتواء الشعوب، بما تمثله من أسواق تجارية. وانتهت هذه الحرب عام 1918، بفتح كوّة تمثلت بتغييرٍ في أشكال الهيمنة، ما سمح باستقلال بعض شعوب المستعمرات، مشفوعة بوعي قومي ــ وطني. كما تمخضت عن قيام نظام عالمي جديد على أنقاض القديم، رعته الدول المنتصرة عبر عصبة الأمم.
ولمّا نشبت الحرب الكونية الثانية، كانت بمثابة ردّ فعل متوحش قادته دولٌ انهزمت في الأولى، وتميّزت برفع لواء النازية والفاشية شكلين للتعصّب القومي الذي يتغذى على التفوق العرقي. وذلك بهدف ردّ الاعتبار ومحو آثار الهزيمة والتخلص من الشعور بالإذلال، وصولاً إلى السيطرة والهيمنة على العالم، ضاربة بعرض الحائط جُلّ الإنجازات والمكتسبات التي تحققت للبشرية فكرياً وإنسانياً، كالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وما تحققت هذه المكتسبات إلا بفضل نضالات الشعوب المقهورة، ممهورة بالدم والمآسي والآلام. وانتهت الحرب الكونية الثانية، بعد أن كبّدت البشرية ملايين القتلى والجرحى والمشوّهين، كما دمرت حواضر بكاملها، تحوي ما لا يقدّر بثمن من الإنجازات الفنية والهندسية الرائعة. ولكنها، في الوقت نفسه، فتحت كّوّة في الأفق المسدود، تمثّل باستقلال أكبر عدد من شعوب الأرض، كما تم دفن فكرة الاستعمار إلى الأبد، وسادت قيم الحرية والديمقراطية، وتوسّعت قائمة حقوق الإنسان، وتكرست الاشتراكية هدفاً أسمى. وذلك كله في إطار نظام عالمي جديد، رعته الدول المنتصرة عبر هيئة الأمم المتحدة. ولم يكن النظام الجديد مثالياً، وترافق مع نشوء هذا النظام التسليم باغتصاب فلسطين من أهلها، بعد طردهم وتشريدهم في جهات المعمورة الأربع.
كما أن أنظمة الدول المنتصرة في أميركا وأوروبا ما لبثت أن تخلت عن القيم التي حاربت وانتصرت باسمها، وأقامت صرح النظام العالمي الجديد. وأصبحت المصالح الاقتصادية والمادية والمنافع المباشرة والآنية هي المؤشر والبوصلة التي تُنظم مسار العلاقات الدولية، وليس قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وتشكّل العالم من أنظمة الدول الحضارية والمتقدمة، تُقابلها أنظمةٌ ملكيةٌ وشبه ملكية رجعية، وإلى جانبها دول استقلت حديثاً، لكن أنظمتها جنحت نحو الاستبداد والديكتاتورية. وكان يحصل ذلك على مرأى الدول الحضارية والمتقدمة ومسمعها، لا بل بتأييد وتشجيع منها (الانقلابات العسكرية). وقد ساهم هذا كلّه في تكوّن عالمٍ غير متوازن، عالم مجنون.
ثم ما لبث العالم أن انقسم، بمعظم دوله وشعوبه، بين كتلتين: "رأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأميركيّة واشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي وعلى رأسه روسيا". وذلك نتيجة حربٍ باردةٍ ارتسمت معالمها منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، واستمرت حتى بداية التسعينيات منه. وشكّل هذا الانقسام وتلك الحرب الباردة مبرّراً لكلتا المجموعتين في تخليهما عن شعارات وقيم الحريات العامة وحقوق الإنسان، متفرغة للدفاع عن مصالح كتلتها، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
وفي نتيجة هذه المنافسة، وهذا الصراع، انهارت الكتلة الاشتراكية، وتفكّكت منظومة الاتحاد
السوفياتي الشيوعية. وخلت الساحة العالمية للولايات المتحدة التي تزعمت العالم منفردةً، فترة تزيد عن عقد. افتتحتها بغزو العراق عام 1991، وبعده أفغانستان، ثم العراق ثانية عام 2003. وكان ذلك تحت راية الحرب على الإرهاب، ممثلاً بتنظيم القاعدة وحليفته حركة طالبان، وبعدهما داعش وغيره من التنظيمات التي فرخت هنا وهناك ولا تزال. واستمرت الولايات المتحدة تتوسّع في حربها على الإرهاب، بإعلان التحالفات الدولية التي جمعت دولاً متقدمة ومتخلفة ونامية. والكل يُعلن حربه على الإرهاب، ولكل طرف من هؤلاء فهمه وتعريفه الخاص للإرهاب (لم يصدر تعريف موحّد تُجمع عليه جميع الدول). وأصبح القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع بين هذه التحالفات الدولية ذات الأنظمة المتناقضة والمصالح المختلفة هو الحرب على الإرهاب، والكل يعتمد الأسلوب الأمني والعسكري فقط، ويجمع بينهم أنهم استخدموا الخطاب نفسه في التوصيف والتحليل والتعليل، وغابت عن الجميع ضرورة البحث في الأسباب السياسية ــ الاقتصادية ــ النفسية ــ الدينية ــ الثقافية والاجتماعية لهذه الظاهرة.
وها قد مضى أكثر من عقدين على هذه الحرب، والنتيجة أن الإرهاب توسّع وانتشر أكثر، ونوّع وسائله وأسلحته. والغريب أن يلتقي خطاب باراك أوباما مع بشار الأسد، وكذلك الأنظمة الملكية والرجعية مع الأنظمة الديمقراطية في خطابٍ واحدٍ موحّد لمحاربة الإرهاب، بما فيهم دولة النظام الصهيوني في فلسطين. حتى إن مرجعيات دينية تقاطعت مع هؤلاء في أسلوب المواجهة، حين أعلنت من الأزهر أنها تريد قطع أيدي هؤلاء الإرهابيين وألسنتهم.
والحقيقة أننا نعيش في عالم متوحش مجنون، منذ أكثر من نصف قرن، إذ يتناقض القول مع الفعل، وأوصلتنا سياساته إلى التوحش بنتائجها. ونراه اليوم يُجيّش الجيوش لمحاربة هذا التوحش؛ (يُقال إن هتلر كان أول من أطلق مصطلح الإرهاب على معارضيه، في الداخل والخارج). بينما المطلوب هو القيام بنقدٍ شاملٍ لسياسات على مدى نصف قرن من الزمن الماضي، مارستها دول متقدمة، ودول وطنية حديثة الاستقلال، ودول رجعية ملكية، وصولاً إلى دور السلطات الدينية، والكثير من الثقافات التي حملت، وما زالت، تلاوين عنصرية. باختصار، إننا نعيش في عالم منفصم الشخصية في إنسانيته، يُساهم ليل نهار في خلق الوحش والتوحش (الإرهاب)، ثم ينبري لمحاربته!
لماذا لم نطرح أسئلة من قبل: من أين يتموّل الإرهاب؟ ومن يموله؟ ويدربه ويسلحه؟ من تسبّب في عقد نفسيةٍ، لمن ينخرطون وينغمسون في هذه الأعمال، وهؤلاء ليسوا إسلاميين أصوليين فحسب، وليسوا فقراء متخلفين أيضاً، وليسوا جهلةً غير متعلمين، بل إنهم مزيجٌ من هؤلاء جميعاً، يُضاف إليهم حملة الإجازات الجامعية، وأساتذة جامعيون، وأبناء أسر مترفة، إنهم مهندسون وأطباء ومحامون. إنهم متفوّقون في العلوم الرياضية والفيزياء والكيمياء وعلم الكومبيوتر. إنهم شباب ولدوا في دول الغرب، وتشبعوا بثقافته.
يندفع كل هؤلاء، مجتمعين، إلى الانخراط في تلك التنظيمات المتوحشّة، بوعي ولا وعي منهم. وهدفهم الوحيد تدمير النظام العالمي، باعتباره المسؤول عن مآسي البشرية وآلامه. باعتباره نظاماً ظالماً تنقصه العدالة التي يُحاولون إحلال العدالة الإلهية مكانها. ومن هنا، قبولهم الانضواء والاحتماء براية الأصوليات.
3E1C7ABD-B536-4E61-A5CA-CD16D3C52150
3E1C7ABD-B536-4E61-A5CA-CD16D3C52150
علي غندور

كاتب لبناني

علي غندور