الحراك العسكري التركي .. تداعيات سورية وعراقية وإقليمية

10 اغسطس 2015

المجلس العسكري الأعلى التركي مجتمعا برئاسة أوغلو (3 أغسطس/2015/الأناضول)

+ الخط -
على الرغم من إعلان تركيا الحرب ضدّ "الدولة الإسلامية"، إلا إنّ هدفها غير المعلن يتمثل في ضرب مواقع حزب العمال الكردستاني، وقد توسّع نفوذه في المنطقة، إثر الخسائر التي تكبّدتها كل الأطراف في الصراع المحتدم في سورية والعراق، وكان من السهل إيجاد الذريعة لبدء هذه المعركة، بعد مقتل مواطنين أتراك في مدينة سروج، والضربات العسكرية موجّهة في وقت واحد لداعش وحزب العمال، على الرغم من وجود التنظيمين في خندقين متباينين. ويبدو أنّ رغبة الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، تهدف إلى تحجيم نفوذ الأكراد في المناطق المتاخمة والكيل لداعش في آن واحد. وقد أعلنها أردوغان حربًا شاملة أهدافها واضحة، إلا أنّ معارضيه شكّكوا في نجاحها، مؤكّدين أنّ الحملة ستؤدّي، في نهاية المطاف، إلى توسيع رقعة الحرب في الإقليم. 

قتال متعدّد الجبهات
لم تتوانَ القوات العسكرية التركية عن خرق اتفاق الهدنة مع حزب العمال الكردستاني اليساري التوجّهات، هدنة أبرمت بصعوبة خلال العام 2013، وأقدمت على مهاجمة مواقع الحزب، كما سمحت للطيران العسكري الأميركي باستخدام قاعدة إنجرليك القريبة من سورية، لإمطار مواقع داعش بالصواريخ، وكانت الطائرات الأميركية تقطع مسافات طويلة آتية من قواعد موالية بعيدة حتى اللحظة. وقد أكدت الحكومة التركية، في تصريحاتها المختلفة، على نياتها بالدفاع بقوّة عن أمنها القومي، ولن تسمح لأيّ من القوات المرابطة على حدودها بمهاجمة أراضيها وقتل مواطنيها. لكن، لا أحد يمكنه التنبّؤ بمصير هذا الصراع الدمويّ ونهايته، علمًا أنّ التدخّل العسكري التركي سيقلب موازين ومعادلات كثيرة على أرض الواقع.

تقر تركيا بأنّ حزب العمال الكردستاني وداعش تنظيمان إرهابيان، لكنّها ترى في الحزب الكردي خطورة أكبر على أمنها، لذا، فإنّ الحملة التركية مركّزة بصورة أكثر وضوحًا على المواقع التي تتمركز فيها القوات الكردية، وتستخدم تركيا داعش ذريعة للتخلّص من النفوذ المتنامي لحزب العمال الكردستاني، وفي البال الصراع الدامي بين الطرفين الذي امتدّ عقوداً.
وقد صرح كريم يوكتيم، العضو في مركز الدراسات الأوروبية وفي معهد الاستشراق لجامعة أكسفورد وأحد أهم المحللين للمشروع الأكاديمي لدراسة الإسلام المعاصر وآثاره في البلقان، لصحيفة كابيتال البلغارية بأنّ تركيا تتظاهر بإعلان الحرب ضدّ داعش، لكنّها، في واقع الأمر، تنوي مهاجمة حزب العمال الكردستاني، ويمكن ملاحظة أنّ العمليات العسكرية داخل البلاد وخارجها موجّهة ضدّ الأكراد، من دون التعرّض بصورة جادّة للجهاديين لدى تنظيم داعش. ويمكن ملاحظة الفارق ما بين طريقة اعتقال أعضاء وأنصار داعش التي تمّت وفق الشروط الأوروبية في تركيا، في مقابل العنف والضرب الذي صاحب اعتقال أعضاء حزب العمال.

داعش العدوّ المفضّل
ترى تركيا أنّ داعش ليست العقبة الأساسيّة، وسيزول مع زوال النظام السوري. لذا، يعتبر داعش بالنسبة لتركيا عدوًّا مفضّلا وليّناً، في وقت تخشى فيه تركيا تنامي القوّة العسكرية لحزب العمال وجناحه العسكري "وحدات حماية الشعب – YPG" التي تمكّنت من إيجاد موقع استراتيجي بين القوات المتناحرة في سورية، متزعمة الحرب ضدّ داعش، ومدعومة من القوات العسكرية الأميركية، لذا وجّهت أصابع الاتهام لتركيا لتساهلها مع داعش، والتركيز على مهاجمة الأكراد للحدّ من نفوذهم، علمًا أنّ أنقرة وواشنطن توصّلتا إلى صيغة تفاهم للتعاون في مجال وقف تدفّق المقاتلين والأموال من تركيا إلى سورية، وهناك أنباء عن موافقة أميركا لتشكيل منطقة تركية آمنة في العمق السوري.
ساعدت السياسة التركية المعتدلة تجاه الجهاديين في داعش في رفع أسهم حزب العمال وذراعه العسكرية، وحدات حماية الشعب بدعم أميركي، ما دفع تركيا إلى إعادة النظر مليًا في مواقفها، والمبادرة بقلب الموازين، خصوصاً إثر العملية الدموية التي شهدتها مدينة سوروج على المناطق المتاخمة لسورية، والمبادرة لإيجاد قوى معارضة سورية مرنة ومتزّنة، كي تحلّ مكان داعش، ووقف اندفاع الحزب الكردي في الداخل السوري.
وحسب ما نشرته وكالة رويترز، بتاريخ 5 أغسطس/آب ووسائل الإعلام التركية، بات من المقرّر مشاركة تركيا في حملة واسعة ضدّ قوات داعش، بزعامة القوات الأميركية، وانطلاقًا من القواعد العسكرية التركية، وأشارت "رويترز" كذلك إلى الموقف الرسمي السوري الذي أكّد أنّ العمليات التي لا تتم بالتنسيق مع دمشق تعتبر خرقًا لسيادة الحكومة السورية، ولنا أن نتساءل عمّا تبقّى من هذه السيادة، في وقت تجول وتصول فيه قوات من مختلف الجنسيات فوق الأراضي السورية، وفي وقت خسر فيه النظام السوري ثقة جلّ الشعب السوري، نتيجة عمليات القتل والتدمير المنظّم واستمرار إلقاء البراميل المتفجّرة فوق رؤوس العباد، بحجّة مواجهة الإرهاب، من دون التفريق ما بين قرية آمنة وثكنة عسكرية.
في الوقت نفسه، دعا يوهانس خان، المفوض الأوروبي المسؤول عن شأن توسّع المنظومة، تركيا إلى اتّخاذ إجراءات مدروسة ضدّ الإرهاب، كيلا تؤدّي هذه الحملة إلى نقض اتفاقية الصلح والهدنة المبرمة مع المتمرّدين الأكراد. وتأتي تصريحات المسؤول الأوروبي على خلفية هجمات القوات التركية ضدّ مراكز حزب العمال الكردستاني. وأشارت الاستخبارات التركية المضادة إلى وجود مخاوف لإعلان الحكم الكردي الذاتي في إقليم أغري التركي، كما الحال في ثلاثة أقاليم أخرى في سورية والعراق، وهناك أطماع، حسب الاستخبارات التركية، لإعلان الاستقلال والحكم الذاتي الكردي في أقاليم أغري وإغدر وأرضوم وغيرها في تركيا.
لذا، تفوق مخاوف تركيا من توسّع نفوذ الأحزاب الكردية في تركيا وسورية والعراق بكثير مخاوفها من ازدياد نفوذ "داعش" وسلطته، وهناك مخاطرة لإفراغ المناطق المتاخمة لتركيا من قوات التنظيم، لأنّ البدائل أيضًا قوات إسلامية متشدّدة، لا تتوافق بالضرورة مع تطلعات أميركا الراغبة بتوظيف قوات معتدلة في مناطق التماس، في الوقت نفسه، يعتبر الأكراد هذه الإجراءات محاولة لسلب الأراضي والأقاليم ذات الأغلبية الكردية.

وهناك أنباء تفيد بأنّ ينس ستولتنبرغ، السكرتير العام لحلف الناتو، طالب في اجتماع الدول الأعضاء في الحلف، مع إعلان تركيا الحرب ضدّ داعش وحزب العمال الكردستاني، طالب، خلف الأبواب المغلقة، بعدم استخدام القوة المفرطة ضدّ الأكراد، والإبقاء على الهدنة مع الأقلية الكردية.
وقد أوضح المتحدث باسم الحكومة التركية أنّه ليس من الدقّة إعلان انتهاء صلاحية الهدنة مع الأقلية الكردية، لكن آليات عملها مجمّدة في الوقت الراهن، ولا بدّ للأكراد من الاختيار بين تسليم السلاح والتوقّف عن القيام بهجمات إرهابية داخل الأراضي التركية مقابل التقيّد بالمبادئ الديمقراطية والحريات المنشودة، كما أكّد رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، أنّ المنهجين متناقضان.

أهداف تكتيكية مشتركة
هناك تأويلات أخرى بشأن مشاركة تركيا في الحرب ضدّ داعش، تؤكّد جدّية توجهاتها العسكرية بصورة غير مسبوقة، وأوضحت الإدارة الأميركية أنّ سماح تركيا بانطلاق المقاتلات الأميركية من قواعدها العسكرية سيعمل على تغيير قواعد اللعبة، وسيسمح بحرب أكثر فاعلية ضدّ داعش في الإقليم، حسب تصريحات فادي حاكورة، الخبير التركي والمحلل في مركز تشاتام هاوس اللندني. وحسب سنان يولغن، رئيس مركز الدراسات الاقتصادية والدولية في إسطنبول والضيف المستشار في معهد كيرنيغي – أوروبا، إنه "على الرغم من الإشارات الدالّة على سياسة تركية متماثلة تجاه حزب العمال الكردستاني وداعش، فإنّ هناك فروقا أصولية، أهمّها مواجهة الجهاديين عملية قد تستمرّ سنوات، وتهدف إلى إضعافهم قبل القضاء عليهم، لكن مواجهة الأكراد عملية محدودة الاستمرارية، وذات طابع تكتيكي، وتأتي ردّة فعل للهجمات التي قامت بها القوات الكردية ضدّ مواقع تركية، وعلى الأرجح، ستطالب الحكومة التركية الجديدة بتجديد المحادثات، والتوصّل إلى اتفاقية سلام في الأسابيع المقبلة".
كما توجد عوامل سياسية أخرى في الحملة التركية المعلنة ضدّ الأكراد، تتمثّل في رغبة الرئيس، رجب طيب أردوغان، بتعجيل عقد انتخابات برلمانية جديدة في خريف العام الحالي، بعد تمكّن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من تجاوز عتبة 10% المحدّدة للمشاركة في قوام البرلمان في شهر يونيو/حزيران الماضي، والتأهّل لدخول البرلمان. ويأمل أردوغان كسب أصوات القوميين في الانتخابات المقبلة، باعتماد سياسة متشدّدة ضدّ الأقلية الكردية، وتبقى المخاوف قائمة من ردود فعل عنفوية كردية، والأمثلة على ذلك كثيرة في المواجهات الدموية التي شهدتها تركيا في الحقبة الماضية، وقبل التوصل إلى إبرام الهدنة.

مؤشرات النجاح العسكري ضدّ داعش
رغم امتداد الضربات العسكرية لدول التحالف ضدّ داعش عدّة أشهر، وتحقيق نجاح ملحوظ في عين العرب "كوباني" وتكريت، يبدو من الصعب كسر شوكة تنظيم الدولة وديناميكية أدائه، والملاحظ تشكّل انطباع واسع في الإقليم، يشير إلى تحالف أميركا مع إيران والميليشيات الشيعية ضدّ السنّة، وكذا عدم وجود إرادة لدى دمشق وبغداد، بصورة مستديمة، لفرض إرادة سياسية بديلة عن الاقتتال لوقف النزاع الدمويّ بطريقة سلمية، ويتعذّر تحقيق هذا الهدف من دون مشاركة السنّة في القرار السياسي، ونيلهم دوراً أساسيّاً في السلطة وإدارة البلاد. عمليًا لا توجد آفاق لحلّ الأزمة، من دون التوصّل إلى حلّ سياسي ديناميكي يرضي كل الأطراف، الأمر الذي يصبّ في صالح داعش في الوقت الراهن.
يعود ظهور "داعش" ونجاحه وتناميه إلى فشل المشروع السياسي بشكل عام، ونتيجة للحرب الأهلية الدائرة في سورية والعراق، وسيبقي إجهاض الحلّ السياسي الشامل الفرصة مواتية لتكرار هذه الظاهرة، وإن تمكن الحلفاء من القضاء على هذا التنظيم. ويمكن، من جهة أخرى، توسيع رقعة الخلاف بعد الاتفاقية النووية في إيران، وإطلاق العنان لليد الطولى لإيران في المنطقة، مستفيدة، من دون شكّ، من مقدّراتها المالية المحرّرة. وتدرك القوى الإقليمية أنّ المجتمع السنّي هو الحاضن لداعش الذي لا يتوانى عن التحدّث باسمهم، وهم وحدهم "السنّة" قادرون على قلب الموازين وإقصاء داعش عن القرار السياسي.

حلّ الأزمة العراقية دون السورية
تبدو الجهود العسكرية موجّهة، بشكل خاص، للتغلّب على الوجود العسكري والجيوسياسي لداعش في العراق، وتتركّز الضربات العسكرية على مواقع التنظيم في العراق. لكن، من الصعب للغاية التغلّب على داعش بصورة واضحة، حال دحره وإقصائه عن العراق، وترك الأزمة السورية من دون حلول نهائية إلى أجل غير مسمّى، مع أنّ سورية هي التي شهدت انطلاقة شرارة الأزمة في الإقليم، بعد تحويل المظاهرات السلمية المطالبة بالديمقراطية إلى مواجهة عسكرية وحرب أهلية، في فترة وجيزة، والعمل الحثيث فيما بعد على تسليح المنظّمات التي نبتت كالفطر ما بعد المطر في سورية.
وأوضح جوليان بارنس أنّ أوروبا تأمل، أيضًا، أن تعمل تركيا على ضبط حدودها، للحدّ من حرية تنقل الجهاديين القادمين من أوروبا، وتشهد القارة مشكلات أصولية مع أعضاء داعش وأنصاره، إثر عودتهم إلى دولهم وقيامهم بعمليات إرهابية ونشاطهم في تنظيم وعي الشباب المنحدر من أصول إسلامية وغسله، مستغلّين إحباطهم وعدم قدرتهم على الحصول على فرص عمل جيّدة، والاندماج في المجتمعات الأوروبية. وقد شهدت مقدونيا، قبل أيام، عمليات اعتقال لمجموعة جهادية موالية لداعش، وهناك مخاوف من تنامي نشاط الجماعات الجهادية في دول عدة في البلقان. كما توجد ضرورة لبذل جهود مشتركة من تركيا والسعودية وكل أطراف الصراع لوقف تمويل الجماعات المسلحة وداعش. لكن، حتّى وإن أبدت تركيا رغبتها واستعدادها للقيام بذلك، سيتعذّر عليها الحدّ من نشاط الجهاديين وتنقلهم من أوروبا وإليها، من دون التوصّل إلى حلّ سياسي للأزمة في سورية والعراق.


59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح