الحذاء الممزق رمزاً للشموخ

10 مارس 2019
+ الخط -
ما كان يضير صديقي أبو عميرة، لو انتظر خمسين عامًا، ليشهر حذاءه الممزّق في وجه العالم الآن، أعني في زمن لاعب كرة السلة الأميركي، زيون ويلسون، الذي تسبب تمزّق حذائه الرياضي، في إحدى مباريات الدوري، في تكبيد شركة نايكي العالمية للأدوات الرياضية ملايين الدولارات، إثر انخفاض أسهمها في البورصات العالمية؛ لا لشيء سوى لأن حذاءه من منتجاتها؟
خطر على بالي أبو عميرة، تحديدًا؛ زميل دراستي في ابتدائية المثنّى بن حارثة؛ لأنه كان الولد الأشد تمزّقًا في مدرستنا، بدءًا من حذائه، وليس انتهاء بملابسه المفتّقة المرقّعة، على مدار السنة الدراسية؛ إذ كان يكفي أن نرى كرة ألوان متنافرة تلوح من بعيد، لنعرف أن القادم هو أبو عميرة.
والحال أن أبا عميرة لم يكن يزعجه من هذا التمزّق الذي يعيشه غير حذائه فقط، بدليل أنه لم يكن يكترث ببنطاله المفتوق من الخلف، وإنْ تسبب ذلك بعواصف من الضحكات والنكات التي تلاحقه في ساحات المدرسة وردهاتها، غير أن ما كان يستوقفه، دومًا، هو حذاؤه الممزّق، فنراه دائم العناية بفتوقه، ويحرص على مراجعة "الإسكافي" أو "الجزمجي"، كلما ظهر فتقٌ جديد، وما أكثرها بالطبع، غير أن الرتق سرعان ما تتمزّق خيوطُه، وتعود قدم أبي عميرة لتخرج من مقدّمة الحذاء مجدّدًا، إلى أن قرّر "الإسكافي"، ذات فتق أخير، أن الحذاء لم يعد قابلًا للترقيع، فما كان من زميلنا غير أن يختفي، لا من السوق فحسب، بل من المدرسة كلها، أيضًا. وعندها عرفنا أن أبا عميرة قد دخل مرحلة "التمزّق الداخلي" هذه المرة، ولن تسمح له كبرياؤه، بعد اليوم، أن يأتي إلى المدرسة حافيًا.
آنذاك، لم يسعف الغيب زميلنا الخجول، فينبؤه بأن يخبئ حذاءه إلى زمن آخر، يصبح فيه الفقر فضيحة الأثرياء، وليس الفقراء، لكن يبدو أن الزمن يتواطأ، أيضًا، ضدّ الفقراء، يا أبا عميرة، وضد المواطن العربي المخدوع بالبائع، فكم اشترينا من دولنا بضائع فاسدة، سرعان ما تمزّقت عند أول اختبار، لكن لم يعوّضنا أحد.. اشترينا وعودًا زائفة بالحرية، ولم نزل نُقمع ونسجن عند أول محاولةٍ للتعبير، واشترينا وعودًا زائفة بالتحرير، فتهافتت أنظمتنا للتطبيع، وبيع القدس عاصمةً لإسرائيل، واشترينا وعودًا بالتقدّم والتحديث، فاكتشفنا أننا لم نبرح عصور الجاهلية، على الرغم من كل النظريات التي ابتعناها من موسكو وجمال عبدالناصر وصدام حسين.
عمومًا، لا أدري إن كانت تنبؤاتي صائبةً أم لا بشأن زميلي الممزّق، غير أن ثمّة ما يدعو إلى ذلك، وإن كان تحقق النبوءة ما يزال بعيدًا عن بلادنا نحن العرب؛ في ظلّ الأحذية التي تدلق ألسنتها في وجوهنا، وفي أتون أنظمةٍ لا تقيم كبير وزنٍ لعري مواطنيها برمته، وليس للأقدام فحسب، فمن الصعب على هذه الأنظمة أن تقتنع، حتى اليوم، بأن المواطن الممزّق، هو فضيحتها هي بالمقام الأول.
أيضًا، حدث في بلد زيون ويلسون، أخيرا، أن دفعت الشرطة الأميركية تعويضًا قدره 21 مليون دولار لمواطنٍ سجن ظلمًا بجريمة قتل، مدة 39 عامًا، فماذا عن شعوبٍ سجنت برمّتها، داخل قضبان القمع والكبت، أزيد من قرنٍ ونيّف، وحين حلّ موعد ربيعها، اعتبرت أنظمتها أن "الربيع العربي" هو "فضيحة الشعوب"، لا فضيحتها هي التي أوصلت "رعاياها" إلى تلك الثورات، ففاقمت من استبدادها وطغيانها، وسنّت دساتير جديدة، تتيح لها "الحكم المؤبد" على هرم السلطة، كما يفعل عبدالفتاح السيسي حاليًّا.
فرق شاسع، يا أبا عميرة، بين بلادٍ يصبح فيها الحذاء الممزق رمزًا للشموخ، ودول ما تزال ترى فيه أداة للسحق والمحق.. في الأولى، يعلن النظام الاقتصادي للدولة حالة الطوارئ، وتنهار شركاتٌ عظمى. وفي الثانية، يطلب من صاحب الحذاء الممزّق أن يواري "سوءته" فيدفن حذاءه، ويدفن حرّياته، ويدفن طموحاته، ودماغه، فإن لم يفعل يُدفن إلى جانب حذائه.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.