أعمدة دخان أسود تتصاعد هنا وهناك. دويّ انفجارات عنيفة ومتتالية، تزامناً مع تحليق مكثّف لطائرات مروحيّة وعلى ارتفاعات منخفضة، تليها حالة هدوء لا يخرقها إلا هدير آليات مدرّعة تتحرّك من نقطة إلى أخرى على الحدود بين قطاع غزة ومصر. يختصر هذا المشهد حال المنطقة الحدوديّة بين مدينتي رفح الفلسطينيّة والمصريّة.
في الجانب الفلسطيني، تجمّع عشرات الصحافيين الفلسطينيين، إضافة إلى رجال الأمن الوطني والدفاع المدني الذين انتشروا على طول الحدود لتأمينها، والعمل بشكل فوري على إنقاذ المنازل الفلسطينية، في حال تعرّضت لشظايا تلك الانفجارات، في الجانب المصري المقابل.
تُذكّر أصوات الانفجارات ومشاهد الدخان الأسود الفلسطينيين في جنوب قطاع غزة، بالعدوان الإسرائيلي الأخير قبل نحو شهرين، والذي استمر 51 يوماً وأودى بحياة 2190 فلسطينياً، وتسبّب في إصابة نحو 11 ألفاً آخرين.
وتفجّر وحدات الهندسة التابعة للجيش المصري، منذ أسبوع، عدداً من المنازل، بلغت حصيلتها 50 منزلاً، بعدما أجبرت سكانها على المغادرة، في موازاة ضبطها لأكثر من 70 نفقاً، لتهريب السجائر وأخرى متوقفة عن العمل، تنتشر أسفل الحدود الفلسطينيّة المصريّة.
ويقول الفلسطيني محمود قشطة (32 عاماً)، وهو من سكان المنطقة الحدوديّة مع مصر، لـ"العربي الجديد"، إنّ عمليات الجيش المصري على طول الحدود "تجعلنا نعيش في أجواء حرب حقيقيّة، فأصوات الانفجارات لا تتوقّف، وشظايا وركام المنازل المتفجّرة تصل إلى منازلنا، والأسوأ أنّنا نخشى أن تصيب هذه الشظايا، الأطفال الذين يلعبون في الطرق".
ويدفع هذا الوضع سكان المنطقة الحدودية إلى ملازمة منازلهم. ويوضح قشطة "نحن لا نخرج من منازلنا خلال ساعات الليل، بسبب ازدياد الأوضاع الأمنية توتراً في الجانب المصري من الحدود خلال تلك الساعات". ويعرب عن خشيته من أن تتسبب الانفجارات الشديدة، في تدمير منزله المتهالك، بعد إصابته بقذيفة أطلقتها المدفعيّة الإسرائيليّة خلال الحرب الأخيرة على القطاع".
وتعمد قوات الجيش المصري، منذ بداية الأسبوع الماضي، إلى تهجير سكان المناطق الحدوديّة في مدينة رفح المصريّة، وتفجير وهدم منازلهم الواقعة على عمق 400 متر، من الشريط الحدودي.
ويوضح شهود عيان لـ"العربي الجديد" أنّ جنوداً من الجيش المصري، وآليات مدرّعة ودبّابات وآليات عسكريّة مصفّحة وناقلات جند، وقوات من وحدة الهندسة، تنتشر بشكل كثيف جداً، في مدينة رفح المصرية، خصوصاً في المناطق الحدوديّة، وتفرض حظر تجول من الساعة الخامسة مساء حتى الثامنة من صباح اليوم اللاحق. ويشيرون إلى أنّ جميع سكان المنطقة الحدوديّة لمدينة رفح أخلوا منازلهم ونقلوا حاجياتهم وأثاثهم إلى مدينتي العريش والشيخ زويد.
ووفق شهود عيان، تجري عمليات التفجير من خلال زرع متفجّرات بكميّات كبيرة داخل المنازل المستهدفة، ومن ثمّ يُصار إلى تفجيرها عن بُعد. كما أغرق الجيش المصري بالمياه نحو 70 نفقاً منتشراً أسفل الحدود بين غزة ومصر، في حين تُطلق القوات المصريّة نيران أسلحتها بكثافة وبشكل عشوائي خلال ساعات الليل تجاه مدينة رفح المصريّة.
وتسبّبت التفجيرات المتتابعة، التي يُحدثها الجيش المصري على طول الحدود مع غزة، بأضرار بالغة في المنازل الفلسطينيّة في رفح، مما أجبر عشرات الأسر الفلسطينيّة على ترك منازلها خشية على حياتها. ويقول عبد الرحمن فتحي (45 عاماً)، وهو أحد الفلسطينيين القاطنين قرب الحدود المصريّة، إنّ أصوات الانفجارات المتواصلة، وإطلاق النار الكثيف في الجانب المصري يجعل عائلته تعيش في حالة من الرعب والقلق الشديدين.
ويشير فتحي لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "نوافذ منزله تحطّمت وظهرت تشقّقات كبيرة في جدران وسقف منزله، نتيجة شدّة الانفجارات التي ينفذها الجيش المصري"، معرباً عن قلقه من أن "يجبره توتّر الأوضاع الأمنيّة في مصر على النزوح من منزله، كما فعل عدد من الفلسطينيين في مدينة رفح".
وتهدف عمليّة هدم البيوت والأنفاق، وفق ما توضحه مصادر لـ"العربي الجديد"، إلى إنشاء "منطقة عازلة" على الحدود المصريّة الفلسطينيّة، من المرجّح أن تنتهي في غضون عشرة أيام أو أسبوعين. وتفيد المصادر بأنّ المنطقة العازلة التي تشارك في إنشائها، إضافة إلى الجيش المصري، قوات من جهازي أمن الدولة والاستخبارات الحربيّة، سيتراوح عرضها ما بين 400 و1200 متر على طول حدود غزة.
وكان 31 جندياً مصرياً قد قُتلوا في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في هجوم نفّذه مسلّحون مجهولون على نقطة تفتيش تابعة للجيش المصري في محافظة شمال سيناء، وعلى أثر هذا الهجوم أعلنت السلطات المصرية إغلاق معبر رفح "حتّى إشعار آخر"، وإخلاء المنازل الواقعة على مسافة 500 متر بين مدينة رفح المصرية والحدود مع قطاع غزة.
وتقول السلطات المصرية إن الهدف من إنشاء المنطقة العازلة "وقف تسلّل الإرهابيين" إلى الأراضي المصريّة، في وقت تنشر فيه وسائل إعلام مصريّة، بشكل شبه يومي، أخباراً تتهم فيها فلسطينيين من غزة بالتورّط في حادثة سيناء، من دون أن تؤكد مصادر رسميّة هذا الاتهام. في المقابل، تنفي حركة "حماس"، مشاركة أي فلسطيني من القطاع في عمليّة قتل الجنود المصريين في سيناء، وتؤكّد استمرار الاتصالات مع مصر، نافية اتهام أيّ فلسطيني في الأحداث الأمنيّة على الساحة المصريّة.