يقوم كتاب عبد الرحمن اليعقوبي هذا، بمقارنة جهود ثلاثة من الباحثين والمفكرين العرب: محمد عابد الجابري، ومحمد أركون وهشام جعيط، فقد كان لهؤلاء الثلاثة مشاريع رائدة وشجاعة في إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي وتناولهم لسؤال النهضة والعلاقة مع الآخر وتحدي الأدوات المنهجية والمفهومية السائدة في العالم العربي. هذه المشاريع هي لبنات الأساس التي تُمكننا من بناء الفكر ونقد العقل وتجديد المنهج وحفر المفهوم، من أجل الإصلاح الديني وبناء مجتمع عادل وديمقراطي.
يبدأ الكاتب بإظهار أهمية المصالحة مع الحداثة التي نَظَّرَ لها بعض المفكرين الغربيين، ليبين أنها ليست حداثة خاصة بالغرب، ما يستدعي استخدام تراثنا لمواجهتها، بل فيها الكثير من الكونية. والمشروع الحداثي هو مشروع متطور ومفتوح، ونقده لا يعني إلغاؤه، كما قام بذلك بعض الإسلاميين واليساريين. كانت هذه المقدمة مهمة لينبه القارئ العربي إلى أن تأثر الكتاب الثلاثة (أركون، الجابري وجعيط) بالفكر الغربي وأدواته المعرفية شيء مثمر، ويستشهد بمقولة للجابري: "الفصل بين الفكر الغربي والشرقي في الثقافة المعاصرة هو فصل تعسفي لا علمي، مثلما أن الفصل في تراثنا بين ما هو عربي إسلامي وما هو غير عربي وغير إسلامي عملية تعسفية لا علمية. إن الفكر العالمي المعاصر يمكن -بل يجب-التمييز فيه فقط بين ما يخدم التقدم ويسير في اتجاه تطور التاريخ، وما يخدم الواقع الاستغلالي والهيمنة الإمبريالية أو القومية العرقية".
تناول اليعقوبي خصوصية كل من الكتاب الثلاثة. فأركون، منبهر بمفهوم الحداثة الكونية ولذا فهو يؤسس لمفهوم القطيعة مع الفكر الإسلامي كشرط الانخراط في الحداثة، وهذه نقطة خلاف كبيرة مع الجابري. يستخدم أركون منهجا للكشف عن اللامفكر فيه داخل الفكر الإسلامي ويؤسس لما يسميه "الإسلاميات التطبيقية" بعناصرها الثلاثة: أولوية المقاربة السيميائية، والمقاربة التاريخية والسوسيولوجية، قبل اتخاذ الموقف الثيولوجي من الأديان السماوية. ولكن اليعقوبي لم يشر إلى أن أركون توقف طويلا عند المقاربة السيميائية واللسانية وأهمل المقاربة السوسيولوجية. وهذا بالنسبة لي شرط إعادة قراءة التراث وشرط ربطهم بالزمان والمكان وبناء فقه الواقع. أما الجابري فمنهجه، الثلاثي أيضا، يقوم على المعالجة النبوية أي دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا، والتحليل التاريخي، وأخيرا الطرح الإيدولوجي، أي الكشف عن الوظيفة الأيدولوجية، الاجتماعية السياسية، التي أداها الفكر المعني، أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام. أما منهج جعيط فهو منهج اختبار الوثائق ودراستها بشكل موضوعي.
سأترك للقارئ اكتشاف خبايا الكتاب وأنتقل هنا لتقديم نقاط الضعف التي جاءت فيه. فأولا، لم يكن اليعقوبي جريئا بقدر جرأة هؤلاء المفكرين الثلاثة في نقدهم، فكانت أطروحته انبهارية بفكرهم ولم يظهر اختلافاتهم مع بعضهم بعضاً، فمثلا لم يتساءل لماذا لم يشر أركون أبدا إلى أدبيات الجابري، والعكس صحيح أيضا. هذا الإقصاء المتبادل الذي يحمل بذور عصبيات جاهلية كان له سبب في نظرة أركون لمشروع الجابري على أنه مشروع نضالي قومي عربي ينتصر إلى الثقافة العالمة، وعقلانية صرفة احطت كثيرا من اتجاهات الصوفية وعرفانيتها.
أما أركون ذو الأصول القبلية (الأمازيغية) فاهتم بالمخيّلة الإبداعية العرفانية وبتجليات الإسلام الشعبي وبساطته ولم يعتبر أنه عقل مستقيل كما وصفه الجابري. ثانيا، يبدو أن الكتاب هو نتاج أطروحته للدكتوراه التي دافع عنها في 2008، ولكنه لم يقم بتحديثها، فهناك على سبيل المثال كتب ألفها جورج طرابيشي ووليد محمود خالص حول الجابري، ولم يتكلف عناء الاستشهاد والاستفادة والنقد. وأخيرا أرى أن هناك مفارقة، فكيف يمكن لعبد الرحمن اليعقوبي، وهو واحد من أبناء الحركة الإسلامية في المغرب، أن يقتحم مثل هذه القضايا الشائكة، بينما يتجاهل التطرق لقيام بعض الإسلاميين بذبح "تكفيري" لفكري أركون والجابري؟ فالكثير منهم ببساطة لم يقرأوهم قبل نقدهم.
(أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية، بيروت )
يبدأ الكاتب بإظهار أهمية المصالحة مع الحداثة التي نَظَّرَ لها بعض المفكرين الغربيين، ليبين أنها ليست حداثة خاصة بالغرب، ما يستدعي استخدام تراثنا لمواجهتها، بل فيها الكثير من الكونية. والمشروع الحداثي هو مشروع متطور ومفتوح، ونقده لا يعني إلغاؤه، كما قام بذلك بعض الإسلاميين واليساريين. كانت هذه المقدمة مهمة لينبه القارئ العربي إلى أن تأثر الكتاب الثلاثة (أركون، الجابري وجعيط) بالفكر الغربي وأدواته المعرفية شيء مثمر، ويستشهد بمقولة للجابري: "الفصل بين الفكر الغربي والشرقي في الثقافة المعاصرة هو فصل تعسفي لا علمي، مثلما أن الفصل في تراثنا بين ما هو عربي إسلامي وما هو غير عربي وغير إسلامي عملية تعسفية لا علمية. إن الفكر العالمي المعاصر يمكن -بل يجب-التمييز فيه فقط بين ما يخدم التقدم ويسير في اتجاه تطور التاريخ، وما يخدم الواقع الاستغلالي والهيمنة الإمبريالية أو القومية العرقية".
تناول اليعقوبي خصوصية كل من الكتاب الثلاثة. فأركون، منبهر بمفهوم الحداثة الكونية ولذا فهو يؤسس لمفهوم القطيعة مع الفكر الإسلامي كشرط الانخراط في الحداثة، وهذه نقطة خلاف كبيرة مع الجابري. يستخدم أركون منهجا للكشف عن اللامفكر فيه داخل الفكر الإسلامي ويؤسس لما يسميه "الإسلاميات التطبيقية" بعناصرها الثلاثة: أولوية المقاربة السيميائية، والمقاربة التاريخية والسوسيولوجية، قبل اتخاذ الموقف الثيولوجي من الأديان السماوية. ولكن اليعقوبي لم يشر إلى أن أركون توقف طويلا عند المقاربة السيميائية واللسانية وأهمل المقاربة السوسيولوجية. وهذا بالنسبة لي شرط إعادة قراءة التراث وشرط ربطهم بالزمان والمكان وبناء فقه الواقع. أما الجابري فمنهجه، الثلاثي أيضا، يقوم على المعالجة النبوية أي دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا، والتحليل التاريخي، وأخيرا الطرح الإيدولوجي، أي الكشف عن الوظيفة الأيدولوجية، الاجتماعية السياسية، التي أداها الفكر المعني، أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام. أما منهج جعيط فهو منهج اختبار الوثائق ودراستها بشكل موضوعي.
سأترك للقارئ اكتشاف خبايا الكتاب وأنتقل هنا لتقديم نقاط الضعف التي جاءت فيه. فأولا، لم يكن اليعقوبي جريئا بقدر جرأة هؤلاء المفكرين الثلاثة في نقدهم، فكانت أطروحته انبهارية بفكرهم ولم يظهر اختلافاتهم مع بعضهم بعضاً، فمثلا لم يتساءل لماذا لم يشر أركون أبدا إلى أدبيات الجابري، والعكس صحيح أيضا. هذا الإقصاء المتبادل الذي يحمل بذور عصبيات جاهلية كان له سبب في نظرة أركون لمشروع الجابري على أنه مشروع نضالي قومي عربي ينتصر إلى الثقافة العالمة، وعقلانية صرفة احطت كثيرا من اتجاهات الصوفية وعرفانيتها.
أما أركون ذو الأصول القبلية (الأمازيغية) فاهتم بالمخيّلة الإبداعية العرفانية وبتجليات الإسلام الشعبي وبساطته ولم يعتبر أنه عقل مستقيل كما وصفه الجابري. ثانيا، يبدو أن الكتاب هو نتاج أطروحته للدكتوراه التي دافع عنها في 2008، ولكنه لم يقم بتحديثها، فهناك على سبيل المثال كتب ألفها جورج طرابيشي ووليد محمود خالص حول الجابري، ولم يتكلف عناء الاستشهاد والاستفادة والنقد. وأخيرا أرى أن هناك مفارقة، فكيف يمكن لعبد الرحمن اليعقوبي، وهو واحد من أبناء الحركة الإسلامية في المغرب، أن يقتحم مثل هذه القضايا الشائكة، بينما يتجاهل التطرق لقيام بعض الإسلاميين بذبح "تكفيري" لفكري أركون والجابري؟ فالكثير منهم ببساطة لم يقرأوهم قبل نقدهم.
(أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية، بيروت )