يسيطر مزيج من الحزن والمرارة على الفلسطينية، فاطمة أبو علي (79 عاماً)، كلما عادت بذاكرتها إلى المشاهد المأساوية، التي حدثت أثناء خروجها مكرهة من بلدتها الأصلية، "الجورة"، على وقع هجوم عصابات صهيونية على القرى الفلسطينية عام 1948، فيما عرف بـ"النكبة".
وتبدو الحاجة فاطمة (أم محمد)، التي لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة عشرة عندما دقت ساعة الهجرة، حاضرة الذهن وهي تستذكر اللحظات الأولى لقصف العصابات الإسرائيلية منازل القرية بالمدفعية بعدما فرضت عليها الحصار المشدد من الجهات الأربع، وكأنها جرت للتو.
وتقول السبعينية فاطمة، لـ"العربي الجديد"، إنها كانت تعيش في قريتها "الجورة"، بأمن واستقرار، وكذلك باقي السكان الذين كانوا يعملون في مجال الصيد البحري وبيع الأسماك، بجانب تجارة المحاصيل الزراعية، مشددة على أن القرية لم تكن بها إطلاقا أي أملاك يهودية.
وتقع قرية "الجورة"، التي تبعد عن حدود قطاع غزة نحو21 كلم، على الساحل البحري، لذا كانت تعتبر مصيفاً لسكان المدن المجاورة، ويقدر عدد سكانها قبل وقوع النكبة بـ2800 نسمة، فيما تجاورها عدة بلدات فلسطينية هُجِّر أهلُها الأصليون كالمجدل، وحمامة، وبيت دراس، ونعليا، وبربرة، والعراق الغربي.
وتضيف أم محمد، بكلمات مشبعة بالأسى، بدأت العصابات الإسرائيلية هجومها على القرية بشن معركة نفسية من خلال نشر الإشاعات بين المواطنين، حول بشاعة المجازر، التي ترتكبها في القرى المجاورة وقوة السلاح والعتاد التي تملكه، بجانب فرض الحصار المشدد مع ترك بعض المنافذ نحو البحر والأراضي الزراعية.
وتتابع "هرب بعض سكان القرية من بيوتهم على وقع القصف العشوائي، الذي طال القرى القريبة بهدف إثارة الرعب، ولكن العديد من العائلات بقيت صامدة لعدة أيام بناء على الأخبار، التي تتحدث عن شراسة المعارك التي كانت تخوضها القوات العربية ضد العصابات اليهودية عند حدود البلدات المجاورة".
وبينما كانت أم محمد مشغولة في إعداد الخبز لعائلتها، في ساعات الصباح الباكر، فوجئت بأن القذائف تطال قريتها، وتقول الحاجة فاطمة: "حُبست داخل الفرن بعدما تطاير ركام منزل جارنا أيوب غراب عند باب الفرن، فحُجزت بالداخل لعدة ساعات، قبل أن تأتي والدتي لتنقذ حياتي رغم شدة القصف وحجم الدمار".
وتبين المسنة الفلسطينية أن عائلتها، المكونة من ستة أفراد، لم تقرر الخروج من قريتها فوراً، ولكنها احتمت داخل أحد كروم العنب التابعة للقرية لأيام، إلى أن شاهدت جنود العصابات الإسرائيلية بأعداد كبيرة تدخل القرية بصحبة المجنزرات والأسلحة المدفعية الثقيلة.
واتضح لعائلة الحاجة فاطمة سر إبقاء العصابات بعض المنافذ نحو الأراضي الزراعية أثناء الحصار الذي فرض على القرية، قبل الهجوم عليها بأيام، وذلك من أجل قتل أكبر عدد ممكن من السكان العزل، الذين هربوا للاحتماء في الأراضي المحيطة بالقرية، عبر تكثيف القصف المدفعي عليهم.
وعلى وقع القصف واقتحام جنود العصابات الإسرائيلية البلدات الفلسطينية وقتل كل من صمد فيها، قررت العائلة الهروب من الموت والبحث عن الأمن، معتقدة أنها ستعود بعد أيام، لذا تركت الأموال والذهب الذي كانت تملكه بين أكياس القش، حاملة فقط بعض قطع الخبز وكميات من الماء.
وتضيف المسنة الفلسطينية: "غادرنا القرية سيراً على الأقدام نحو مدينة غزة مباشرة، سالكين الطريق الساحلي كمئات العائلات، وفي الطريق شاهدت مئات الجثث التي كانت متناثرة هنا وهناك من مختلف الأعمار، وكذلك عشرات القرى المهدمة على رؤوس ساكنيها بفعل القصف".
وتوضح: رحلة العذاب استمرت ثلاثة أيام متواصلة دون توقف خشية استهداف العصابات الإسرائيلية، في ظل نفاذ الطعام والماء، إلى أن وصلنا لمنطقة قاحلة تقابل ميناء غزة القديم، تعرف الآن بمخيم الشاطئ للاجئين، غربي مدينة غزة.
وترفض أم محمد رفضاً قاطعاً أي تعويض مهما كان حجمه ومقداره، مقابل التنازل عن حق العودة، وتعلق: "لا شيء في العالم يساوي جلسة واحدة تحت كروم العنب بجوار البحر"، لتطلق في ختام حديثها تنهيدة مليئة بالحسرة على وعود الجيوش العربية آنذاك، التي أكدت أن الهجرة مؤقتة ليوم أو يومين.
وتسرد الحاجة فاطمة من وقت لآخر بعض أحداث النكبة لأبنائها وأحفادها، مطالبة إياهم بحمل الأمانة والتمسك بحق العودة إلى بلدتهم الأصلية، وكذلك عدم التفريط بشبر واحد من الأرض المسلوبة عنوة، لحين ما يتحقق حلم العودة الذي طال انتظاره منذ نحو سبعة عقود.
اقرأ أيضاً:لاجئو مخيم شعفاط يحلمون بالعودة للبيت والحاكورة