28 يناير 2024
الجُبير حين ينزعج
علينا أن نأخذ انزعاج وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، على محمل الجدّ؛ لأنه انزعاج يفوق أضعاف الحجم الضئيل للمذكور من جهة، ولأن الرجل، والحقّ يقال، نادرًا ما ينزعج في الملمّات، فقد تعوّدنا عليه رابط الجأش في المؤتمرات الصحافية، بالكاد يُسمع صوته خلف الميكرفون الذي يُخفي جسده كله، غير أنه في تصريح له أخيرا كان "منزعجًا"، وسبب انزعاجه، وفق ما أدلى به، "هذه الهستيريا التي أصابت العالم في قضية اغتيال جمال خاشقجي".
الواضح، إذن، أن الجبير يرى في الاهتمام العالمي بهذه الجريمة "هستيريا" مرَضية غير مفهومة، وربما تقتضي العلاج، أيضًا؛ لأن القضية لا تستحق كل هذا الاهتمام، فخاشقجي، في آخر المطاف، ليس أزيد من رجلٍ حضره الأجل في أوانه، وشاءت المصادفات أن يكون أجله على أيدي رجال مخابرات سعوديين، ولا شيء غير ذلك، والأحرى غلق ملف هذه القضية، وليعُد كل واحد إلى بيته، و"فضّوا هالسيرة".
أشاطر الجبير انزعاجه، وأتفهمه، تمامًا، في حالةٍ واحدة فقط: إذا وضعت دماغي في جمجمته الفارغة، أو التي أفرغها أمراؤه وأسياده. عندها، في وسعي أن أفهم كيف يفكر هذا الصنف من أدعياء البشرية، فالجبير وأمراؤه، ومن على شاكلتهم من طغاة العرب، ينزعجون، حقًّا، حين يتوقف العالم الحرّ عند "جثّة معارض"، وهم الذين لا تستوقفهم شعوبُهم برمّتها، وإن استحالت كلها جثثًا حتى، فالحياة ليست أزيد من "قيمةٍ مضافةٍ" في عمر رعاياهم، أو منحةٍ مشروطةٍ من فيض "منحِهم" التي يسبغونها عليهم، لقاء الولاء الأعمى لهم، ولسلطتهم، فإن أخلّ عاثرُ حظّ بهذا الشرط، فمن حقّ "المالك" أن ينتزع المنحة منه، ويضع حدًّا لحياته بالطريقة التي يقرّرها، حتى ولو كانت بأسنان منشار، سواء نفّذ الحكم في "المحميّة" المدعوّة، عرضا، "دولا"، أو خارجها، فالعالم كله بالنسة لهم ساحة صالحة لتنفيذ قرار الإعدام، ما دام ولاء الفارّ من وجه "عدالتهم" مشكوكًا فيه.
لم تزعج الجبير الجريمة بحدّ ذاتها، بل أزعجته ردة فعل العالم حيالها، وأراهن أنه كاد يقول بصوته المبحوح: "وماذا لو علمتم عن آلاف المعارضين الذين كتمنا أنفاسهم قبل خاشقجي وبعده.. أيّ هستيريا ستصيبكم؟". هنا، أيضًا، أشاطر الجبير اندهاشه، وأتساءل معه: "لماذا يكون كتم أنفاس أصحاب الرأي في بلادهم جريمةً تستفزّ أعصابهم، وتصبح قضية "رأي عام" تستوجب النفير الإعلامي والسياسي، في حين لا تحرّكُ عصبًا واحدًا في أجسادهم، إذا انتقل مسرح الجريمة إلى بلادنا نحن، فحادثة مثل ميدان رابعة العدوية المصري الذي أزهقت فيه أرواح الآف المعتصمين السلميين، لم تستوجب أدنى فعل إدانةٍ حقيقيّ من العالم المؤمن بالديمقراطيات وحقوق الإنسان. وينسحب الأمر نفسه على ثورة الربيع السورية التي خلفت آلاف القتلى والجرحى ونصف شعب خارج وطنه.. وكيف تصبح القضية في هذه الحالة "قضية رأي خاص"، لا تقتضي نفيرًا ولا تستحوذ على أزيد من خبر صحافي في ذيل نشرات أخبارهم وملاحق صحفهم.. ومن حقّنا، نحن المنكوبين بجرائم كتم الأنفاس والملاحقة في أوطاننا، أن نتساءل بانزعاجٍ لا يشبه انزعاج الجبير بالتأكيد: لماذا تكون المسافة الفاصلة بين الرأيين "العام" و"الخاص" طويلة على هذا النحو، على الرغم من تماثل جرائم الاغتيال الوحشيّ والبربريّ في الحالين، وإن اختلفت مسارح وقوعها؟
سيظلّ هذا السؤال ممضًّا، ومثيرًا لمزيدٍ من الريبة والتشكّك، لأنها تحيل إلى إجاباتٍ مقلقةٍ، قوامها أن الغرب لا يكترث بالموت الدائر خارج غرف نومه، فشتّان ما بين أن يقتلنا عادل الجبير في السعودية، وأن يقتلنا خارجها. .. والويل.. كل الويل لنا، بعد اليوم، إن أزعجنا الجبير بدمنا النافر من حزّ المنشار على أعناقنا.
الواضح، إذن، أن الجبير يرى في الاهتمام العالمي بهذه الجريمة "هستيريا" مرَضية غير مفهومة، وربما تقتضي العلاج، أيضًا؛ لأن القضية لا تستحق كل هذا الاهتمام، فخاشقجي، في آخر المطاف، ليس أزيد من رجلٍ حضره الأجل في أوانه، وشاءت المصادفات أن يكون أجله على أيدي رجال مخابرات سعوديين، ولا شيء غير ذلك، والأحرى غلق ملف هذه القضية، وليعُد كل واحد إلى بيته، و"فضّوا هالسيرة".
أشاطر الجبير انزعاجه، وأتفهمه، تمامًا، في حالةٍ واحدة فقط: إذا وضعت دماغي في جمجمته الفارغة، أو التي أفرغها أمراؤه وأسياده. عندها، في وسعي أن أفهم كيف يفكر هذا الصنف من أدعياء البشرية، فالجبير وأمراؤه، ومن على شاكلتهم من طغاة العرب، ينزعجون، حقًّا، حين يتوقف العالم الحرّ عند "جثّة معارض"، وهم الذين لا تستوقفهم شعوبُهم برمّتها، وإن استحالت كلها جثثًا حتى، فالحياة ليست أزيد من "قيمةٍ مضافةٍ" في عمر رعاياهم، أو منحةٍ مشروطةٍ من فيض "منحِهم" التي يسبغونها عليهم، لقاء الولاء الأعمى لهم، ولسلطتهم، فإن أخلّ عاثرُ حظّ بهذا الشرط، فمن حقّ "المالك" أن ينتزع المنحة منه، ويضع حدًّا لحياته بالطريقة التي يقرّرها، حتى ولو كانت بأسنان منشار، سواء نفّذ الحكم في "المحميّة" المدعوّة، عرضا، "دولا"، أو خارجها، فالعالم كله بالنسة لهم ساحة صالحة لتنفيذ قرار الإعدام، ما دام ولاء الفارّ من وجه "عدالتهم" مشكوكًا فيه.
لم تزعج الجبير الجريمة بحدّ ذاتها، بل أزعجته ردة فعل العالم حيالها، وأراهن أنه كاد يقول بصوته المبحوح: "وماذا لو علمتم عن آلاف المعارضين الذين كتمنا أنفاسهم قبل خاشقجي وبعده.. أيّ هستيريا ستصيبكم؟". هنا، أيضًا، أشاطر الجبير اندهاشه، وأتساءل معه: "لماذا يكون كتم أنفاس أصحاب الرأي في بلادهم جريمةً تستفزّ أعصابهم، وتصبح قضية "رأي عام" تستوجب النفير الإعلامي والسياسي، في حين لا تحرّكُ عصبًا واحدًا في أجسادهم، إذا انتقل مسرح الجريمة إلى بلادنا نحن، فحادثة مثل ميدان رابعة العدوية المصري الذي أزهقت فيه أرواح الآف المعتصمين السلميين، لم تستوجب أدنى فعل إدانةٍ حقيقيّ من العالم المؤمن بالديمقراطيات وحقوق الإنسان. وينسحب الأمر نفسه على ثورة الربيع السورية التي خلفت آلاف القتلى والجرحى ونصف شعب خارج وطنه.. وكيف تصبح القضية في هذه الحالة "قضية رأي خاص"، لا تقتضي نفيرًا ولا تستحوذ على أزيد من خبر صحافي في ذيل نشرات أخبارهم وملاحق صحفهم.. ومن حقّنا، نحن المنكوبين بجرائم كتم الأنفاس والملاحقة في أوطاننا، أن نتساءل بانزعاجٍ لا يشبه انزعاج الجبير بالتأكيد: لماذا تكون المسافة الفاصلة بين الرأيين "العام" و"الخاص" طويلة على هذا النحو، على الرغم من تماثل جرائم الاغتيال الوحشيّ والبربريّ في الحالين، وإن اختلفت مسارح وقوعها؟
سيظلّ هذا السؤال ممضًّا، ومثيرًا لمزيدٍ من الريبة والتشكّك، لأنها تحيل إلى إجاباتٍ مقلقةٍ، قوامها أن الغرب لا يكترث بالموت الدائر خارج غرف نومه، فشتّان ما بين أن يقتلنا عادل الجبير في السعودية، وأن يقتلنا خارجها. .. والويل.. كل الويل لنا، بعد اليوم، إن أزعجنا الجبير بدمنا النافر من حزّ المنشار على أعناقنا.