الجيلالي الغرباوي المنبوذ عائدًا إلى الواجهة

16 مارس 2015
+ الخط -
لِمَ تكون حيوات الفنانين أكثر مأساوية من أعمالهم، حتى حين تكون هذه الأخيرة خارجة عن المألوف؟ للكاتب حظّ كتابة شذرات حياته، بشكل مباشر أو غير مباشر، وحكْيها أو قولها شعرًا، غير أن الفنان لا يجد أمامه سوى بقعة قماش أو ركام مواد يسعى من خلالها إلى تكثيف بركان حياته الهادر. نحن نعيش مع الكاتب، الروائي خصوصًا، ساعات طوالًا، نتابع معه أحيانًا بالتفصيل مجريات بوْحه، فيما تكفينا لحظات تأمّل قليلة كي نغوص في علامات وأشكال ورموز تحبل بها اللوحة أو المنحوتة أو العمل الفني البصري المعاصر. تحجب الأعمال الفنية حياة الفنان بشكل أو بآخر، فيما تكشف الرواية حياة الكاتب وتعريها. لذلك غالبًا ما تكون حياة الفنان موضوعًا مفضلًا للسينما، لأنها بغناها وثرائها تمكّن من استكشاف مغامرة الوجود الثاوية وراء كثافة العمل الفني.
لا يزال الجيلالي الغرباوي، بعد أربعين عامًا لرحيله، الوجه الأكثر مثارًا للحيرة والفضول في الفنّ المغربي الحديث. كانت وفاته المبكّرة في باريس في عزّ الوحدة والبؤس، على مقعد عمومي في الشان دو مارس سنة 1971، وهو لم يتجاوز الأربعين عامًا، قبيْل افتتاح معرض تشكيلي كان يعدُّ له في المدينة نفسها، تعلن عن جروحه الداخلية التي حملها معه من صباه.
فهذا اليتيم الذي كان بائع جرائد في الصبا، منبوذًا من الكل، سوف يدرس الفنّ في العاصمة ويصاحب كبار الفنانين من مدرسة باريس، لكي يخلِّف وراءه حياة صاخبة مرتجّة وأعمالًا فنية وافرة لا تفتأ تكشف لنا عن الثراء الباهر "لأساليبها" كما عن التعددية الملغزة لشخصيته.
رغم أن أعمال الغرباوي حظيت باهتمام أصدقائه وجامعي الفنون وتجّارها في تلك المرحلة، فإنه ما يزال الفنان المنسي وغير المفهوم والأكثر استعصاء على الكشف والإدراك في التاريخ القصير للفنّ الحديث بالمغرب. فمسعاه المتحرّر من كلّ ارتباط أو مرجعية صريحة للثقافة المغربية، جرّ عليه ضربًا من "التحقير"، مقارنة مع فنانين آخرين كأحمد الشرقاوي مثلًا.
إنه أسلوب قام صديقه هنري ميشو، الشاعر البلجيكي المقيم في فرنسا، وهو أيضًا رسّام وفنّان تشكيلي، بالتعبير عنه في كتاب صغير "انبثاقات واستعلانات". وأنا أقرأ فيه وأرى بعض رسومه ولوحاته، أحس كأنّ الصداقة التي نسجت أواصرها بين الرجلين كانت أيضًا ثمرة تآلفات في الشعر، كما في الرسم والتشكيل. ففي مقطع يصف ميشو رسومه الأولى: "الخطوط منطلقة ومحلقة، كما لو كانت مسكونة بحركة إلهام هواء مباغتة، وهي ليست مخطوطة بطريقة مبتذلة وبعناء وبشكل مكتمل، ذلك هو ما يكلمني وما يأخذ بجوارحي". أليس ذلك وصفًا بالغ القوّة لرسوم الغرباوي؟ خاصة أن الفنانيْن شاركا مرّة في معرض مشترك، وإن كان الغرباوي قد علّق معلنًا اختلاف المسعييْن الفنيين: "كلّ فنان تشكيلي يحافظ على سمات أصوله، ولكم في بيكاسو مثال على ذلك. لكن ما أحمله بالأخصّ في داخلي هو أرضي المغربية. ويمكن للمرء أن يعثر عليها في ألواني. فحين كنت أعرض مع هنري في متحف الفنّ المعاصر، كنا بالغيْ الاختلاف الواحد عن الآخر. كنت أكثر قربًا من الأرض منه. وكان الفنانون الآخرون يقولون لي: "إنك تقدّم لنا، نحن المنغلقون دومًا في مراسمنا، شيئًا يبعث فينا الحياة".
يَدين التشكيل المغربي والعربي للغرباوي بحداثته وعالميته. ففي غياب تقاليد تشكيلية معينة، وجد الفنان نفسه في مواجهة سؤال مزدوج يجعله ينفلت من إنكار التصوير المحلي ومن فتنة التصاوير الاستشراقية التي تشبثت بغرابة المغرب كي تجعل منه أسّاً لها. إنه طريق شخصي يتمثل بالتأكيد في الاختيار الحاسم للتجريد لا باعتباره تيارًا فنيًا بل تعبيرًا وموطنًا وجوديًا.
وإذا كانت بعض أعمال الفنانين المغاربة في تلك المرحلة قد تلاعبت بالتشخيص والتجسيم، فإن أعمال الغرباوي انفلتت من المسالك الملتوية للانطباعية التي تبناها في بداياته، لتنطلق في مسير تجريدية هندسية استطاع من خلالها أن يمتصّ آخر عناصر المرئي ويفكّكها في لعبة الأشكال والألوان. لكن ما إن أحس بالملل من "برودة" المنحى الهندسي الذي تسود فيه الأشكال المبنية ذات الميول الأبولينية حتى انصاع لحرية تجريدية هي بالأحرى "ساخنة" وحيوية وغنائية، وبالأحرى ديونيزية. بيد أن الصورة تظلّ ماثلة، خلال مسير الانفتاح هذا نحو الطُّوية. وهي تتشذّر في رموز وعيون وفي الصورة المحلقة للقالق، وفي رؤوس الأفراس وفي النسيج وعش اللقلق. إنها تنصاع للتحوير في ما يشبه التشخيص الذي يسعى إلى الانفلات من المرجعية العربية الإسلامية الخصوصية للتواريق والحرف والعناصر الزخرفية المحيطة.
والتجريدية باعتبارها اختيارا شخصيا، هي ما تمنح الغرباوي بعده كتشكيلي مؤسّس. وهو مؤسس من خلال إرادته وعزمه على أن يتحول إلى فنان يعلن العصيان، قريبًا من الأرض، بعيدًا عن الإكراهات الخارجية لإبداع يخضع للمعتقد القبْلي. فمن الأرض كان ينهل جوهر ونسغ شطحه الفني. إنها له بمثابة المجاز الأنطولوجي لانتماء حرّ طليق، وبوتقة المادة والحركة والجنون البركاني للحياة والموت. ذلك أن الغرباوي كان يعيش الأرض باعتبارها حساسية وجدانية، وكان يتشبّه بعروقها وتشابكاتها الجذرية. تلك الأرض التي تفوِّض له كامل حمولته الوجدانية وتمنحه ألوانه وعناصره التشكيلية، ورقصاته وحماسته. ولذلك فإن أعماله ما تزال تمنح للتشكيل المغربي أفقه المتجدد وتحوله إلى مرجع يمتَح منه الفنانون الذين جاؤوا بعده نسغهم الإبداعي.
كان الغرباوي يمارس التشكيل بأعصابه وأحشائه، منغلقًا في ذاته، مسافرًا في ثنايا متخيله الفوّار بالعطاء المبدع. وحين كانت تناقضاته الداخلية تحاصره كان يمزق لوحاته، أو يهديها لكل عابر. كان الفنّ له أشبه بموطن، فيه عاش حياته وموته، وفيه وجد طمأنينته المستحيلة.
المساهمون