الجيش الأوروبي الموحّد: مبررات التأسيس لا تكفي لتذليل العقبات

18 نوفمبر 2018
الدول الأوروبية شريك أساسي في حلف الأطلسي (تيل ريميل/Getty)
+ الخط -

وسط التغيّرات الجيوسياسية شديدة الخطورة التي يشهدها العالم، أطلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طارحاً من جديد العمل على إنشاء جيش أوروبي موحّد، وهي الفكرة التي يروّج لها منذ فترة، فيما لم تتأخر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في ملاقاة الرئيس الفرنسي بتأييد فكرته، لأول مرة، خلال كلمة لها أخيراً داخل البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ.

وبدا أن التطورات السياسية والأمنية، والصراعات القائمة، والضغوط التي يعاني منها الأوروبيون حالياً من أكثر من طرف، تطلّبت من ألمانيا وفرنسا، ركيزتي الاتحاد الأوروبي، تحديد مكانة لأوروبا وسط هذه الأجواء، بإطلاق فكرة الجيش الموحّد مجدداً، في ظل انعدام الثقة بين الحلفاء، وانهيار العلاقات عبر الأطلسي تحت حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا ينفك عن مطالبة أوروبا بضرورة زيادة التمويل لحلف شمال الأطلسي لاستمرار تأمين حمايتها. يضاف إلى ذلك، التغيير الذي حل بالنظام العالمي، خصوصاً في الأمور الأمنية، وحرب أنظمة المعلومات والهجمات السيبرانية، إلى التحريض والتشكيك والاتهام والعقوبات، ما تُرجم بحديث بين القادة الأوروبيين عن أن الأوقات التي كان يمكن فيها الاعتماد على الآخرين قد انتهت، ناهيك عن إعادة التسلّح الروسي بعدما رأت موسكو نفسها مهددة، وهذا ما دفع الأوروبيين إلى التركيز على سلامتهم.

لكن إنشاء الجيش الأوروبي، الذي تتحدث عنه بروكسل منذ سنوات، يبقى مجرد فكرة ورمز، بسبب غياب الأفكار العملية لكيفية تقسيم أعداده، وسلطاته، وبوجود تنافس وخلافات كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي، وغياب التكامل في دول منطقة اليورو من أجل إعادة توزيع المخاطر المالية، إضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها ألمانيا والدول الاسكندنافية من المعارضة اليمينية الشعبوية، في ظل انعدام أي أثر للوحدة تجاه التعامل مع ملف الهجرة. والبرهان على ذلك المحاولات التي حصلت في العقود الأخيرة لخلق ترابط بين القوات المسلحة في الدول الأوروبية ولم تحقق سوى نجاحات عرضية في هذا المجال، ومن دون أن يتم تفعيل عملها، ففشل الأمر بسبب غياب توافق القيادة الأوروبية، وكثرة التفاصيل التنظيمية، والافتقار إلى الإرادة السياسية.

على الرغم من كل ذلك، يبدو أن الرئيس الفرنسي يريد تطبيق فكرته بقوة، مع تحذيره من القوى السلطوية التي تعمل على إعادة التسلح على حدود أوروبا، وإعلان ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية نزع الأسلحة النووية مع روسيا، وهو خطر سيكون ضحاياه الأساسيون الأوروبيين وأمنهم، علماً أن الرئيس الأميركي طالب أوروبا مراراً بأن تدفع أولاً حصتها العادلة من تكاليف حلف شمال الأطلسي، واصفاً فكرة الجيش الأوروبي بالسيئة.

وعن الهيكلية التي يمكن أن يكون عليها الجيش الأوروبي الموحّد، وما يعنيه لألمانيا والجدل الحالي حوله، يعتبر خبراء عسكريون أن هناك مقاربات مختلفة حول الحال الذي من الممكن أن يتشكّل عليه الجيش الأوروبي ضمن وحدة قوية من 27 من جيوش أوروبا الصغيرة، والذي من شأنه أن يوفر من التكاليف الهائلة التي تزيد عن 175 مليار يورو سنوياً. ويرى هؤلاء الخبراء أنه بعد فشل توحيد السياسة الخارجية والأمنية وتهميش معاهدة ماستريخت عام 1992 التي أكدت أن الاتحاد الأوروبي مسؤول عن السياسة الأمنية، والتركيز على الاقتصاد الذي نتج عنه قيام مجموعة الفحم والصلب والسوق الأوروبية المشتركة والعملة الموحّدة (اليورو)، جاء الوقت لدفع دول الاتحاد مجتمعة إلى تجميع مواردها لتأسيس جيش موحّد قوي وفعال، يشكّل جنوده عدداً أكبر من الجيش الأميركي، إنما بقدرة قتالية أقل بنسبة 15 في المائة من القوات المسلحة الأميركية.

ويلفت هؤلاء إلى ضرورة أن يكون الجيش متكاملاً ويمنح حقوقاً أساسية للدول الأعضاء، على أن تنتقل تدريجياً الحقوق المتعلقة بميزانية الدفاع وقيادة القوات المسلحة إلى المؤسسات الأوروبية في بروكسل، وتوزع المسؤوليات والاختصاصات المختلفة للجيش بين قوات بحرية وجوية وبرية في سبل التطوير والشراكات في التدريبات والعتاد المتوفر لرفع مستوى الجهوزية لدى 1.2 مليون جندي أوروبي. مع العلم أن ماكرون طالب علناً بأن تصبح أوروبا أقل اعتماداً على أميركا للدفاع عن نفسها من الروس والصين وحتى من الولايات المتحدة، معبّراً وبوضوح عن أنه لا يريد أن يرى الدول الأوروبية تزيد من ميزانيتها الدفاعية لشراء أسلحة أميركية أو غيرها. وساندته ميركل بالقول إن الجيش الأوروبي يكمّل حلف الأطلسي، وإن ذلك من شأنه أن يُظهر للعالم أنه لن تكون هناك حرب مرة أخرى بين الدول الأوروبية، ناهيك عن التنافس السياسي والتكنولوجي والاقتصادي والعسكري بين الصين وروسيا وأوروبا والولايات المتحدة.


بالنسبة لألمانيا، من المفترض، وعلى المدى الطويل، أن يكون للجيش المشترك بعض من المسؤولية على الجيش الألماني، لأنه من منظور واقعي فالدول الأوروبية، وبينها ألمانيا، لن تتخلى على سلطتها وقيادتها لجيوشها، وبالتالي فإن الأمر يتطلب تحديد مدى حجم الجيوش الوطنية والجيش الأوروبي المشترك، الذي ستقع سلطته على عاتق البرلمان الأوروبي، ومن الضروري منحه صلاحيات يكون عبرها قادراً عند الحاجة على اتخاذ قرار سريع وملزم.

في المقابل، برز تعليق لوزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون ديرلاين، اعتبرت فيه أن فكرة ماكرون إيجابية، لكنها لم تؤيد الجيش الأوروبي الحقيقي، لأنه، وحسب قناعاتها، سيكون هناك "جيش من الأوروبيين" وليس "جيشاً أوروبياً" في المستقبل المنظور، ولتبقى المسؤولية على الدول وبرلماناتها. وأبرزت أنه في العام الماضي تأسس اتحاد دفاع أوروبي، وهناك تعاون بين القوات الألمانية والهولندية والنرويجية، على الرغم من أن النرويج ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولكنها تنتمي إلى حلف الأطلسي. مع الإشارة إلى أن وزيري دفاع هولندا والدنمارك رفضا رؤية الجيش الموحّد بسبب الجدل حول السيادة.

كذلك، رفض نائب المتحدث باسم حزب "البديل" الألماني، غيورغ بازدرسكي، تصريحات ميركل حول قيام جيش أوروبي، معتبراً الأمر غير ضروري، لأن ألمانيا عضو في تحالف فعال هو حلف شمال الأطلسي، والمناورات الأخيرة للحلف التي شارك فيها أكثر من 50 ألف عسكري، أظهرت أن الأخير لديه القدرة للدفاع عن أوروبا. وبالتالي ليس المطلوب خلق نسخ مكررة جديدة ومكلفة مادياً، وبدلا من ذلك يجب على الدول الأوروبية أن تسهم بشكل مناسب في أمن أوروبا وتلبية التزامات حلف الأطلسي. وفي السياق نفسه، انتقد حزب اليسار الألماني، ميركل، بشكل حاد، على موقفها، وقالت رئيسة كتلة الحزب في البرلمان الأوروبي، غابرييلا زيمر، إنه كان ينبغي على ميركل القيام بحملة من أجل نزع السلاح ووقف صادرات الأسلحة الألمانية.

من جهته، عبّر الأمين العام لحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، عن معارضته لإنشاء جيش أوروبي، إنما رحب بأهمية القيام بجهود دفاعية أكبر في أوروبا، مشدداً على أنه يجب أن يحدث ذلك ضمن إطار حلف الأطلسي. فيما اعتبر رئيس البرلمان الأوروبي أنطونيو تاجاني، أن الفكرة جيدة، مناشداً ميركل التركيز على اعتماد آلية إلزامية للتوزيع العادل للاجئين في أوروبا، كما خطة ماريشال لأفريقيا.

كل هذه المعطيات تطرح أسئلة كبيرة وأساسية حول إمكان إنشاء هذا الجيش الأوروبي، وكيفية نشره إذا لزم الأمر، في وقت لا تستطيع فيه أوروبا الاتفاق على سياسة خارجية مشتركة. كذلك تُطرح تساؤلات عن توقيت طرح إنشاء جيش مشترك في وقت تنضوي فيه الدول الأوروبية ضمن منظمة مشتركة، هي حلف شمال الأطلسي، وما هي المكاسب المحتملة والممكنة من الناحية النظرية، في حين أن دول التكتل الأوروبي لا تستطيع حتى الاتفاق على المشتريات المشتركة في عمليات التسلح بسبب مصالح تتعلق بصناعاتها. كل هذه الاسئلة تفتقر إلى إجابات مقنعة، وهو ما تدركه المستشارة الألمانية جيداً، ولذلك تحدثت عن رؤية يجب على أوروبا أن تعمل عليها.