الجهاديون في تونس ... مراد الغرسلي وجهاً ونموذجاً
لا يوجد قياديون "جهاديون" تونسيون كثيرون ناشطون في تونس، على غير الوضع خارجها. إذ المفارقة التونسية أن القادة الميدانيين للعمليات الإرهابية في تونس، في غالبيتهم، غير تونسيين، وتحديداً من الجزائر. في حين يلعب قياديون تونسيون دوراً رئيسياً خارج تونس، خصوصاً في الإرهاب القائم في سورية والعراق، منذ أكثر من عقد.
أهم وأبرز مجموعة مسلحة "جهادية" ناشطة في تونس هي "كتيبة عقبة بن نافع"، الناشطة في جبال الشعانبي، الوسط الغربي لتونس، وتنتمي، حسب كل المؤشرات، إلى تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وتواترت الشهادات، بما في ذلك من عناصر انضمت إليها، وتم القبض عليهم لاحقاً (مثل شهادة محمد العمري) أن غالبية قيادييها من الجزائريين الناشطين أصلا في إطار التنظيم، وفي مقدمتهم لقمان أبو صخر (يبدو أن اسمه الحقيقي حسب مصادر جزائرية خالد الشايب، وينحدر من محافظة تبسة الجزائرية). بيد أن هناك اسماً تردد، بشكل لافت من البداية، ويبدو أنه أحد التونسيين القلائل الذين لعبوا، ولايزالون، دوراً قيادياً في المجموعة. إذ إنه، منذ أسابيع قليلة، الشخصية الإرهابية الأكثر ملاحقة، والتي تنشر وزارة الداخلية التونسية بيانات متكررة عن تنقلها بين الولايات الداخلية. يتعلق ذلك بمراد الغرسلي.
حاولت، في إطار وحدة البحث الخاصة بالسلفية الجهادية التي أحدثناها في إطار عملي السابق مديراً عاماً المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، جمع المعطيات عن إمكانية بروز قيادات تونسية ميدانية في الجماعات الإرهابية. وبدا لي أن أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام، هو مراد الغرسلي، المعروف على الأرجح، بكنية أبو براءة التي ترددت في اعترافات الناشطين الذين تم القبض عليهم. لديه ابنة وحيدة، اسمها براءة، ويبدو أنه اتخذ كنية تشير إليها.
صحيح أن الجناح العسكري لتنظيم "أنصار الشريعة" التونسي ضم عناصر تونسية بارزة، نشطت ميدانياً، ولعبت دوراً قيادياً، وتردد بعضهم على جبال الشعانبي (أبرزهم كمال القضقاضي وأبو بكر الحكيم)، غير أن هؤلاء نشطوا، أساساً، في مجموعة مكلفة بالاغتيالات وكان تواجههم مع "كتيبة عقبة بن نافع"، في شكل لجوء وقتي في الجبال، إلى حين الرجوع إلى المناطق الحضرية، والإعداد لعمليات جديدة. وهي مجموعة تفرقت، في معظمها، إما بتصفية واعتقال بعضهم، أو اختيار بعضهم الآخر للهروب خارج تونس.
يطرح ذلك، أيضاً، صعوبة تحديد طبيعة العلاقة التنظيمية بين هذه المجموعة و"كتيبة عقبة". إذ توجد، في الحالة التونسية، تركيبة تنظيمية معقدة، من أهم ميزاتها ضبابية الحدود بين أنصار "القاعدة" وأنصار "الدولة". أحد أسباب ذلك عدم قدرة كثير من المنضوين والمتعاطفين مع ما تبقى من تنظيم "أنصار الشريعة" التونسي على الحسم في الصراع المشرقي بين أنصار الطرفين. بقي موقف زعيم التنظيم سيف الله بن حسين (أبو عياض) متردداً. كثير من المنضمين
لـ"جبهة النصرة" من التونسيين اختاروا الانحياز لـ"الدولة"، غير أن ذلك لم يؤدّ إلى حسم أبو عياض خياراته، وبقي مثل "جهاديين" كثيرين في ليبيا، حيث يقبع أبو عياض مع قيادات أخرى من "أنصار الشريعة" التونسي، في الموقف المتردد نفسه، والذي يركز على جهود المصالحة بين الطرفين، عوض الحسم في الانحياز إلى أحدهما. وهنا يبرز مراد الغرسلي، بوصفه القيادي التونسي الأبرز، الناشط ميدانياً، بشكل مسترسل داخل تونس في مجموعة "جهادية"، أي "كتيبة عقبة" التابعة لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، المعطيات حوله شحيحة، لكن ما هو متاح منها، حسب مصادر متقاطعة وقريبة من محيطه السكني والعائلي، يعطينا السيرة المختصرة التالية.
ولد الغرسلي سنة 1987، وعاش في مدينة القصرين المحاذية لجبال الشعانبي، وتحديداً في "حي النور"، أحد الأحياء الفقيرة في المدينة الواقعة في الوسط الغربي للبلاد، قرب الحدود الجزائرية، والتي تنتمي إلى إحدى المحافظات الأكثر تهميشاً فيها. تتميز القصرين، أيضاً، مثل مناطق أخرى في الوسط الغربي والجنوب التونسيين، بعكس مناطق أخرى في تونس، بتواصل تأثير التركيبة القبلية. ينتمي الغرسلي إلى عشيرة قبلية نافذة وقوية في القصرين، تعرف بـ"الأفيال"، وتقطن في أحياء شعبية، مثل "حي النور" و"حي الزهور" المحازيين للمناطق الجبلية القريبة من المدينة، ولكن تمتد العشيرة، أيضاً، خارج مدينة القصرين، مثل "حاسي الفريد" الواقعة تقريباً على الحدود التونسية الجزائرية.
ينحدر الغرسلي من عائلة تبدو محدودة الإمكانات، واشتغل بعض أفرادها في التهريب بين تونس والجزائر. التهريب أو "الكونترا" مثلما تعرف في المنطقة هي أحد أهم المناشط الاقتصادية فيها، في سياق التهميش السائد في القصرين منذ عقود، وتزايد دور الاقتصاد الموازي، ومن ثم شبكات التهريب، على هامش النظام الكليبتوقراطي الذي سيطرت على مفاصله العائلات النافذة للرئيس المخلوع.
الغرسلي الذي انقطع، بشكل مبكر، عن الدراسة عمل أيضاً في التهريب، وبقي يتردد بين تونس والجزائر، ويبدو أنه نشط في تهريب السلع العادية، ولكن، أيضاً مادة "الحشيش" (الزطلة). وفي هذا السياق، وضمن ظروف غامضة، يبدو أنه تعرض للإيقاف. وعموماً، بدا عليه تغير واضح في الفترة القليلة، مباشرة قبل الثورة، حيث تغير سلوكه، وأصبح يظهر تديناً واضحاً. وهناك من يشير، هنا، إلى أن تردده على الجزائر وشبكات التهريب بين ضفتي الحدود وضعه، على الأرجح، في تماس مع عناصر منتمية لتنظيم "القاعدة" التي استقطبته حينها.
صلابة التركيبة القبلية في هذه المنطقة تفسر، إلى حد ما، تماسكها في الثورة، حيث لعبت دوراً ريادياً في الانتفاض على نظام بن علي، وتضامنت العشائر القبلية المختلفة فيها (إضافة إلى "الأفيال"، هناك "الفراشيش"، "أولاد عسكر"، "ماجر") في وجه القمع الدموي للنظام والذي حصد أرواح شهداء عديدين، والذين سقط بعضهم في "حي النور" الذي تقطنه عائلة الغرسلي تحديداً. وفي هذا السياق، برز الأخير مع مجموعة من أصدقائه المقربين (بعضهم تم القبض عليهم لاحقاً في خلايا إرهابية، مثل علي العمري وحسن المنصوري) مباشرة، إثر الثورة، بوصفه داعيةً دينياً، وجاهر، في هذا السياق، بانتمائه للتيار "السلفي الجهادي".
من غير المعروف تحديداً متى انضم الغرسلي إلى "كتيبة عقبة"، لكن من الأرجح أنه كان من أول المنتمين إليها من التونسيين. إذ بدأت المجموعة بالنشاط في محيط مألوف جداً بالنسبة إليه، وكان ذلك في جبل السلوم المحاذي للأحياء الشعبية في مدينة القصرين، مثل "حي النور" و"حي الزهور"، والذي يمتد مسافة عشرات الأميال، ليصل إلى مدن أخرى في محافظة
القصرين. ويبدو، على كل حال، أن الغرسلي شارك في أول عمليات "كتيبة عقبة" التي اشتبكت فيها الأخيرة مع قوات الأمن في 10 ديسمبر/كانون الأول 2012 قرب مدينة فريانة (محافظة القصرين)، وسقط فيها الوكيل في الحرس الوطني، أنيس الجلاصي.
إثر ذلك، أصبح الغرسلي عنصراً رئيسياً شارك في أهم عمليات "كتيبة عقبة"، خصوصاً منها التي تمت في أو قرب مدينة القصرين (ذبح الجنود التونسيين في رمضان 2013، وعملية هنشير التلة في رمضان 2014، والهجوم على مقر سكنى وزير الداخلية في مدينة القصرين). وعلى الأرجح، فإن الغرسلي ساهم في استقطاب بعض من أبناء حيه، ونجح في تكوين شبكة لوجيستية في محيط جبل الشعانبي، وظف فيها معرفته الدقيقة بالمنطقة من عمله في التهريب، وهو ما ساعد على صعوده في السلم القيادي في المجموعة. ليصبح، الآن، الرجل الثاني في "كتيبة عقبة"، ويخاطر، أخيراً، بتسجيل فيديو، ويظهر فيه بوجه مكشوف.
وقد نشرت حسابات "تويتر" القريبة من "كتيبة عقبة بن نافع"، منها "أفريقية للإعلام" و"أنصار كتيبة عقبة"، في منتصف يناير/شباط 2015 الفيديو بعنوان "كلمة مرئية للأخ أبي براءة التونسي، كتيبة عقبة بن نافع، قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي". كنية أبو براءة التي فيها إشارة إلى اسم "براءة" (ابنة الغرسلي) وملامح الشخص الظاهر في الفيديو تحيل بوضوح إلى مراد الغرسلي. الكلمة التي يبدو أنها سجلت إثر العملية الإرهابية في باريس (يتم الإشارة إليها في الكلمة) يهدد فيها الغرسلي بتواصل عمليات "كتيبة عقبة بن نافع"، والتي يؤكد في الفيديو على صلتها بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهدد بشكل خاص باغتيال وزير الداخلية المتخلي من مدينته، لطفي بن جدو، والذي سبق أن تعرض منذ أشهر قليلة إلى محاولة اغتيال.
الغرسلي، الذي يبدو أنه خرج من المناطق الجبلية المحصنة، القريبة من مسقط رأسه، بصدد التنقل، أخيراً، مع مجموعة من "كتيبة عقبة" في محافظات أخرى قريبة، وهو الآن الشخص الأكثر استهدافاً وملاحقة من الأجهزة الأمنية. أبو براءة الذي لم يبلغ سن الثلاثين، والمنحدر من عائلة محدودة الموارد، والذي لم يكمل دراسته، واشتغل في التهريب، مثل كثيرين من أقرانه في محافظة القصرين المهمشة، والذي استقطبته "القاعدة" في سياق تنقله إلى الجزائر، ليس نموذجاً استثنائياً.
في دراسة الباحث الشاب، ماهر الزغلامي، "السلفي الجهادي في تونس" (من ضمن الدراسات المنشورة في كتاب "السلفية الجهادية في تونس، الواقع والمآلات"، للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، تونس، 2014)، والتي اتبع فيها منهجاً بيوغرافياً، يدرس سير حياة قيادات في التيار "السلفي الجهادي" في تونس، يمكن أن نلحظ تقاطعات في نقاط كثيرة، بين الغرسلي وآخرين. هذا النموذج الذي يتركز في الخصائص التالية: سن الشباب في حدود الثلاثين سنة، النشأة في أحياء فقيرة شعبية، صعوبات في الدراسة، سرعة الانتقال من حياة يغيب فيها الالتزام الديني إلى التزام ديني مفرط ومتعصب. الفرق أنه ربما لن تتاح الفرصة للاستماع لسيرة حياة الغرسلي من فمه.
صحيح أن القيادات الميدانية المتمركزة في تونس، والمشابهة للغرسلي، ليست كثيرة حتى الآن، لكنه يمثل بكل تأكيد أخطر النماذج التي يمكن استنساخها. إذ استطاع تكوين شبكة لوجيستية محلية (ولو أن ذلك تم بدعم من القيادات الجزائرية للقاعدة)، واستطاع التمرس على القتال، وقيادته داخل تونس، ونجح، حتى الآن، في التحصن بالفرار. إذا قرر أي من القياديين "الجهاديين" التونسيين المتمرسين على القتال في سورية والعراق عموماً، وفي إطار تنظيم "داعش"، خصوصاً العودة، فإنهم سينظرون، بتلهف كبير، إلى نموذج الغرسلي.