"فوضى" الجنوب الليبي... بين "انتقام" حفتر وعودة "داعش" ومغامرة اللعب بورقة القبائل

08 يونيو 2019
سيطرة حفتر على الجنوب مؤقتة وهشّة (حازم تركية/الأناضول)
+ الخط -
عاد الحديث عن إمكانية عودة الفوضى الأمنية إلى الواجهة مجدداً، رغم ادعاءات قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بسط سيطرتها على كامل الجنوب الليبي، ولا سيما بعد عودة الأوضاع المعيشية لحالات التردي التي تقارب حد الانهيار، بالتزامن مع نشاط هجمات تنظيم "داعش" وعودة مظاهر الاغتيال والاختطافات القسرية.

وأعلنت كتيبة "خالد بن زياد" التابعة لحفتر، نشر قواتها بمدينة مرزق (180 كيلومتراً جنوب غرب سبها) مجدداً، ناشرة مشاهد مصورة، تظهر سيارات عسكرية وعليها مقاتلون ينتشرون في بعض الطرقات، في إشارة للقدرة على ضبط الأوضاع والسيطرة عليها من الانفلات، لكنْ شهود عيان من داخل المدينة أكدوا لـ"العربي الجديد"، أنّ تلك القوة لم تزد عن حد الانتشار بعيداً عن المعسكرات خوفاً من عمليات انتقامية بسبب رفض الأهالي المستمر لقوات حفتر التي نفذت جرائم تصفية واعتقالات قسرية بحقهم في يناير/ كانون الثاني الماضي.


ونشر نشطاء من الجنوب، عبر منصات التواصل الاجتماعي، صوراً لمدنيين من مزرق، تجاوز عددهم العشرة، قتلوا في ظروف غامضة خلال اليومين الماضيين، مشيرين بأصابع الاتهام إلى قوات حفتر، التي سبق أن نفذت عمليات تصفية في صفوف المدنيين بالمدينة أثناء سيطرتها عليها في فبراير/ شباط الماضي.

عودة "داعش"

وشهد الجنوب أيضاً عودة ملحوظة لنشاط تنظيم "داعش"، ففي الرابع من إبريل/ نيسان الماضي، نفّذت قوات تابعة للتنظيم هجوماً على معسكر للتدريب في منطقة الفقهاء، ما خلف تسعة قتلى وعدداً من الجرحى.

وبحسب المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، شريطة عدم ذكر اسمها، فإن الجنوب بأسره يعرف جيداً أن "داعش يتحصن في أعالي جبال الهروج، التي تقع تحت سيطرة حفتر، ولكن الأخير لا يريد تنفيذ عمليات عسكرية ضده"، مشيرةً إلى وجود علاقات مشبوهة تربط بين عناصر في التنظيم وفصائل قبلية تقاتل ضمن صفوف حفتر.

خلافات قبلية

وبحسب مراقبين للوضع في الجنوب، فإنّ الفوضى الأمنية جاءت نتيجة صراعات تاريخية قديمة على خلفية اختلافات قبلية، يستفيد منها حفتر في إحكام سيطرته على الجنوب.

وتزيد مساحة الجنوب الليبي على 500 ألف كيلومتر مربع، ويعيش فيه طيف قبلي مكوّن من التبو والطوارق والعرب المعروفين باسم الفزازنة والزوية والمجابرة، يتوزعون في ستين مدينة وقرية وواحة.

ويتصل هذا الإقليم بحدود خمس دول أفريقية مجاورة هي (الجزائر، النيجر، تشاد، السودان، ومصر)، وبفعل انهيار الوضع الأمني، لم تنجح تلك الدول بمنع مرور واتصال القبائل القاطنة في الجنوب الليبي بامتداداتها القبلية في تلك الدول، كالتبو في تشاد والنيجر، والطوارق في تشاد والنيجر والجزائر.

وبعد سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، وإثر تزايد التناحر القبلي، ولا سيما بين قبائل أولاد سليمان والقذاذفة في منطقة سبها، والتبو والطوارق في أوباري، وقبائل أخرى في الكفرة، كلّف المؤتمر الوطني العام في 2012 قوة عُرفت باسم "القوة الثالثة" بوقف تصاعد العنف والوقوف كقوة محايدة هناك، لكن التجاذبات السياسية التي أدخلت البلاد في مرحلة انقسام سياسي وأمني منذ عام 2014، جعلت تلك القوة خصماً عسكرياً لقوات حفتر، التي سلّحت قوى قبلية في المنطقة وأدخلتها أتون المعركة.

وحتى عام 2015، كانت الخلافات القبلية في الجنوب قائمة على أسباب تاريخية، ولكن في بداية ذلك العام، أعلن عيسى عبد المجيد والعقيد علي سيدي، وهما من أبرز زعماء قبائل التبو، تأييدهما لـ"عملية الكرامة" بقيادة حفتر، لتتسرب من وقتها صلات وعلاقات بين الرجلين وحركة "العدل والمساواة" السودانية، التي ثبت في ما بعد وجود عناصرها في صفوف قوات حفتر، وفق تقارير للأمم المتحدة، مقابل استعانة "القوة الثالثة" وبقايا مقاتلي حرس المنشآت النفطية بقيادة إبراهيم الجضران بمقاتلي المعارضة التشادية.

ولم تتوقف رغب حفتر في التوجه إلى الجنوب بقصد السيطرة عليه، فأطلق عمليات عديدة لعب فيها على وتر الخلافات القبلية بالمنطقة، موالياً في كل مرة طرفاً قبلياً ضد الآخر، لكن أشرس حملاته كانت في يناير الماضي عندما أعلن عملية عسكرية كبيرة، بعد إحكام سيطرته على الشرق الليبي. وتمكن خلال شهر ونصف من الوصول إلى الحدود الرابطة بين ليبيا والجزائر من جهة، ومع تشاد من جهة أخرى، التي كانت قد أعلنت تنسيقها مع قوات حفتر لتقويض وجود مقاتلي المعارضة التشادية في الجنوب الليبي.

ولم تحمل حرب حفتر على الجنوب الليبي، عكس حروبه الأخرى، شعار "مكافحة الإرهاب"، لكنها حملت شعار "فرض الأمن" وطرد مقاتلي المعارضة التشادية.

ويصف الباحث السياسي والخبير بالشأن الليبي عبد العزيز الأوجلي، الوضع في الجنوب بـ"الفوضوي"، مؤكداً أن "حفتر لعب على وتر الخلافات القبلية بتسليح الأكبر عدداً منها بهدف تقويتها للعمل لصالحه".

سياسات حفتر: اللعب على الخلافات

وقال الأوجلي لـ"العربي الجديد"، إنّ "حفتر منذ بداية حملاته العسكرية سيطر على مناطق الجنوب الشرقي وصولاً إلى الكفرة على مشارف الحدود السودانية، وذلك من خلال تسليح قبائل قوية كالزوية والمجابرة، وترك لها خيار حكم المنطقة والاستفادة من علاقاتها مع المتمردين في السودان ومهربي البشر"، مبيناً أنها السياسة ذاتها التي سيطر بها على وسط وغرب الجنوب.

وأشار الأوجلي أيضاً، إلى أن "سيطرة حفتر على سبها جاءت بعد تقوية أولاد سليمان الفصيل القبلي، الذي حمل عداءات وثارات مع التبو، حلفائه السابقين، الذين تخلى عنهم ثم سلّح قبائل أخرى مثل الحساونة لأنهم يحملون عداءً مماثلاً"، مؤكداً في الوقت نفسه أنّ "الجنوب خال نسبياً من قوات ضاربة لحفتر"، موضحاً أن "ما يوجد منها يتركز في قواعد أساسية مثل سبها يمكنها أن تخرج لتقوّض أي تمرد".

وكانت قوة مسلحة تعمل تحت مسمى "قوة حماية الجنوب"، مؤلفة من مقاتلي التبو المعارضين لحفتر، قد سيطرت خلال ساعات، في منتصف إبريل/ نيسان على قاعدة تمنهنت، لكن حفتر سيّر عليها وحدات من قواته المرابطة داخل معسكرات سبها القريبة، واستعاد السيطرة عليها في اليوم ذاته.

ويرى الأوجلي أن "اللعب على وتر الخلافات القبلية والثأر سيعمقان الخلافات، وهناك من سيبحث عن ثأره في المستقبل، معتبراً أن "سيطرة حفتر على الجنوب مؤقتة وهشة بمعنى الكلمة"، لافتاً إلى أنه "لم يتمكن من الوصول إلى الجنوب الغربي حيث تسيطر قوات مؤلفة من قبيلة الطوارق".

تردّي الوضع المعيشي

وأضاف موضحاً: "عندما أراد (حفتر) السيطرة على حقل الشرارة، الأهم في الجنوب، عقد تحالفات واتفاقات مع زعماء الطوارق، خرج بموجبها بسيطرة غير حقيقة"، لافتاً إلى أن "حفتر الذي مر على الجنوب لكسب ورقة سياسية لإيهام الرأي العام بأنه يسيطر على ثلثي البلاد، الشرق إضافة للجنوب، أغفل جانباً مهماً يتعلق بالجانب المعيشي الذي ازداد تردياً".

وبيّن أن "مأساة غات التي تغرق هذه الأيام في الفيضانات والسيول، كشفت أن حكومة مجلس النواب الموالية لحفتر، لا تقدم شيئاً للجنوب، وأن وجود حفتر في الجنوب قطع للتواصل مع حكومة الوفاق التي تمتلك القدرة على الإمداد المعيشي"، مؤكداً أن "ثورة الجنوب في وجه حفتر قريبة من خلال عاملين معيشي وأمني".

وفيما يحاول حفتر الدفع بالمزيد من التعزيزات العسكرية إلى جنوب طرابلس في محاولة لحسم المعركة سريعاً، يرى الخبير الأمني الليبي محيي الدين زكري، أن الجنوب يمثل الخاصرة الرخوة والورقة التي تهدد مشروع حفتر العسكري.

وأكد زكري في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قوات حفتر لا يمكنها الوصول إلى جنوب طرابلس عبر الشريط الساحلي، حيث يمكن لقوات حكومة الوفاق قطع خطوط الإمداد، لذلك فهي تسير في خط متعرج وطويل جداً من الشرق إلى سبها وصولاً إلى الجفرة ومنها إلى غريان، لافتاً إلى أن "عودة الفوضى إلى الجنوب ستهدد خطوط الإمداد التي يعتمد عليها حفتر".

ورأى زكري أن "طول المعركة في طرابلس يشكل تهديداً حقيقاً لطرقات إمداد حفتر بل لقواعده ولا سيما في الجفرة"، معتبراً أن الاعتداءات التي ينفذها داعش والعصابات المسلحة هي "بفعل فاعل"، مرجحاً أن تكون عملية إلهاء لقوى مسلحة في الجنوب ترفض وجود حفتر.

وتابع: "حفتر لا يزال حتى الآن ينفذ عمليات عسكرية، كان آخرها إرسال وحدات عسكرية لمرزق، يدعي فيها أنه الوحيد القادر على فرض الأمن، وأن أهالي الجنوب في حاجة له"، مبيناً أن "حفتر يدرك جيداً أن أيّ ثورة في الجنوب تعني نهاية مشروعه العسكري في الغرب الليبي".

ورأى زكري أنّ "سياسة حفتر لن تتغير في الجنوب، فهو يعتمد على تقوية القبائل الكبيرة لاستمرار السيطرة على الجنوب لصالحه"، مستدركاً بالقول: "لكن المهدد الحقيقي لتلك السيطرة وقوة الأحلاف هو عامل الوقت، فكلما طال وقت المعارك دون أي مكاسب، سوف تقدم القبائل المزيد من الضحايا، الأمر الذي سيهدد وضع حفتر ولا سيما مع تزايد الأسئلة عن حقيقة استمرار وجود داعش في جبال الهروج، وفي مناطق جنوب شرق سرت وهي أراض تقع تحت سيطرة حفتر".