الجمال متجاهَلاً

17 سبتمبر 2015
+ الخط -
ظاهرة نقدية غريبة يمارسها ناقد معروف في المشهد النقدي الفلسطيني. يستمتع الناقد باستلال عدته الأساسية الشهيرة والوحيدة والحبيبة على قلبه، وهي استنطاق رسائل النص الروائي الاجتماعية والوطنية، والبحث فقط عن فلسطين عودةً وشهداءَ ومنفى وسجوناً، وإجراء مقارنات في المضمون والرؤى بين روايات لروائيين فلسطينيين، وثمة عدة نقدية لديه، في غاية الأهمية وأساسية أيضاً، هي عدة تجاهل جماليات الكتابة وتقنياتها الفنية، لا أهمية عند الناقد للمعمار الفني في هذه الرواية أو تلك، ولا ضرورة للبحث في اللغة، شعريتها وسرديتها وعلاقتها مع البناء والفضاء، ولا أدنى التفاتة لتوظيف الأساطير والحكايات الشعبية والتراث واستثمار كنوز الحلم وتحطيم انتظام السرد، وتقنيات الأجناس الأدبية الأخرى، فكل شيء يصغر أمام رسالة الرواية، ومضامينها، كل شيء يبهت أمام سؤال: ماذا تريد الرواية أن تقول؟ وليس كيف قالت الرواية ما قالت؟ هكذا يتعامل ناقدنا مع روايات، يتناولها في زاويته الأسبوعية في جريدة الأيام، مقدّما لنا معلومات مهمة عن الرواية، مؤلِفا وتاريخَ إصدار، وعارضا بشكل تفصيلي أحداثها وملخصاً رسالتها، ثم رابطاً بينها (وهو المولع بالمقارنات) وبين روايات أخرى، صدرت تتناول الفكرة نفسها. مستنتجاً اتجاهات ما للرواية الفلسطينية، بعيدا طبعا عن حشوتها الفنية وسحرها الإيقاعي وقماشتها الدرامية. 

يفكك الدكتور الصديق عادل الأسطة الروايات الفلسطينية التي تصدر حديثاً، تباعاً، من دون أن يرفض قراءة أي رواية. كل رواية تصدر هي مشروع كتابة نقدية له، فهو قارئ مواظب وصبور، ويسعد بأي رواية تُهدى له، بغض النظر عن عمقها أو سطحيتها. يعترف بذلك، المهم أن يكون فيها أحداث، لها علاقة بمواضيع أو دراسات يتابعها أو يتأملها، كأدب العائدين أو المعتقل أو أدب المنفى أو أدب ما بعد أوسلو. يبحث الأسطة في الروايات بنهَم عما يعطيه مساحة لتأمل المقارنة بين شخصيات الروايات أو أمكنتها وزمنها. لا يهم كيف بنى الروائي الشخصية، وكيف أدار علاقاتها درامياً ولغوياً مع الشخصيات الأخرى، وهل هي صدى لشخصية الروائي، أم صدى لذاتها وسياقها، وكيف صعّدت الشخصية من الأحداث، وكيف ساهمت في نسيج الحبكة، وما مدى صدق الشخصية وتلقائيتها وشبهها لذاتها. عشرات الأسئلة المتصلة بالمعمار الفني يتجاهلها ناقدنا الأسطة، متجهاً بقوة إلى الأحداث والشخصيات، يحللها من زاوية رأيها وفكرتها عن العالم، فهذه الرواية تدين العودة السريعة إلى فلسطين بعد "أوسلو"، وتلك تحتفي بالمنفى خياراً للمقاومة الناضجة، وهذه رواية ترفض التطبيع مع الاحتلال، وتلك تتساوق مع التعايش مع المحتلين. وهذه رواية تهاجم مادية رام الله واستهلاكيتها، وتلك رواية شجاعة جداً في البوح الجسدي، وهكذا يضيع الجمال الفني والمغامرات اللغوية والأسلوبية شر ضياع في غابة الأدب الإبلاغي والرسائلي والتفكيري المباشر.
ويلاحظ المتأمل لدراسات الأسطة عن عالم محمود درويش الشعري (وهي كثيرة) الزاوية نفسها في التناول، كلها تنصب على ما كان درويش يريد أن يقوله في شعره، وعلى مواقفه السياسية وتحولاته الفكرية والشخصية، وإحساسه الثقافي تجاه الأشياء، بعيداً عن تحولاته الفنية والدرامية والإيقاعية. إحدى أهم معالجات الأسطة في شعر محمود درويش، مثلاً، لماذا حذف الشاعر بعض قصائده، ولم ينشرها في مجموعاته الكاملة؟ ربما يكون هذا الأمر مهماً جداً، لكن هذا شأن آخر.
الأفكار الأفكار الأفكار، هي كل ما ينتظره عادل الأسطة مما ينقده من روايات وأشعار، وليس الأسلوب والطريقة التي قال بها الروائيون أفكارهم. الأدب هو الأسلوب، وليس الفكرة، فالأفكار في الطريق متاحة للعابر والمقيم، لكن الأسلوب ليس متاحاً سوى لأصحاب الموهبة والجهد، وربما الحظ أيضاً.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.