الجزية .. مفهوم تزيحه المواطنة والمدنية

29 يوليو 2014

تظاهرة ضد الطائفية في بيروت (إبريل/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

كان قرار ما تسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" إجبار نصارى الموصل على دفع الجزية، أو القتل، أو التهجير، صادماً حتى لأكثر المتعاطفين معها. لكنه، في الجانب الآخر، استأنف نقاشاً، لا يكاد ينتهي حول مفهوم "الجزية"، الوارد في القرآن الكريم، وتطبيقاته التاريخية التي رسخها الفقهاء، وتقوم على فرض ضريبةٍ ماليةٍ، يدفعها غير المسلمين من أهل الكتاب "أهل الذمة" الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية مقابل إعفائهم من الواجبات العسكرية للدولة.

بعد سقوط دولة الخلافة الدينية في مطلع القرن العشرين، وبداية ظهور الدولة المدنية الحديثة، مثلت مفاهيم "أهل الذمة" و"الجزية" تحدياً كبيراً لمنظري تيارات الإسلام السياسي التي تحاول تقديم خطاب يتسم بالمدنية، في دول تتسم بالتعددية العرقية والدينية، مثل مصر والشام والعراق. ومن التصورات التي تم طرحها لعلاج هذه القضية ما ذكره محمد رشيد رضا، في تفسير المنار، أن الجزية فريضة على أهل الكتاب الذين لا يساهمون في العمل العسكري "الجهاد"، أما الدولة الحديثة القائمة على المواطنة، ويتساوى فيها المواطنون أمام القانون، فإن المشاركة في العمل العسكري تكون متاحةً لجميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، وبذلك انتفى الشرط الذي من أجله فرضت الجزية، وبانتفاء الشرط، سقطت الفريضة، كما أسقط مفهوم المواطنة التصنيفات الضيقة، من قبيل "أهل الذمة" و"الموالي" و"العبيد".

بيد أن هذه المعالجة لا تمثل سوى محاولة للهروب إلى الأمام، من وجه الإلزام النصي الذي يمثل في العقل المسلم أمراً نافذاً، يؤدي تعطيله، أو التحايل عليه، إلى انشطار ضمير المؤمن ووجدانه. لذلك، جاءت الإدانات من منظومات الفقه الإسلامي المعاصر لموقف الدولة الإسلامية باهتةً، وتميزت بالبرود، فهي لا تركز في رفضها موقف "داعش" سوى على دعوى جهل القائمين على الدولة الإسلامية، وافتقارها إلى الفقهاء.

ويتمثل الإشكال الذي وقع فيه الفقهاء وحركات الإسلام السياسي و"داعش" جميعاَ في عدم جرأتهم على قراءة النص القرآني، بعيداً عن ضغط التراث الفقهي "التقليد". لذلك، تعاطوا مع التطبيقات التاريخية "الفقه" باعتبارها شريعة الإسلام التي نص عليها القرآن الكريم، ونحن نروم، في هذا المقام، تقديم قراءة متجردة للنص القرآني، بعيدا عن وصاية التراث الذي نكن له كل تقدير واحترام وتفهم لضروراته التاريخية والاجتماعية.

إن قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة: 29، هو النص اليتيم في كتاب الله المجيد الذي انطلقت منه كل التفاسير والتأويلات التاريخية لمفهوم "الجزية". ولا يتحدث، فيما نرى، عن الموقف من الأفراد، بل عن الموقف من الدول، ذلك أن الدول في زمن نزول القرآن لم تكن تقوم إلا على العصبيات من سلطان قاهر ودين ظاهر "الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ"، وبالتالي، كل دولة تعتدي على أخرى بغير حق يجب التصدي لها، وإخضاعها "عَن يَدٍ"، وإجبارها على دفع ضريبة "الْجِزْيَةَ" لتعويض نفقات الحرب، وانعكاساتها السلبية على الدولة المعتدى عليها.

وما يؤكد هذا التأويل أن النبي محمد(ص) لم يفرض أي ضريبة "جزية" على أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة، بينما دشن صحابته هذا العمل، بعد إسقاطهم دولة فارس والروم "الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ". لذلك، اجتهدوا في تأويل مفهوم الجزية، وتم تطبيقه على الأفراد، بسبب انهيار الدول التي كانت تحاربهم، وسقوطها بيد المسلمين. وقد ذكر الطبري أن كسرى أنوشروان كان أول من نظّم عملية دفع "الجزية"، وحدد قيمتها على كل طبقة من طبقات المجتمع، وقال كذلك إن عمر بن الخطاب اقتدى بفعل كسرى، بعد فتحه بلاد فارس، وهو ما أكده محمد رشيد رضا بالقول "ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى، وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند والمقاتلة، وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع".

لا ينقي هذا التأويل الموضوعي الشريعة الإسلامية من تهمة الحط من غير المسلمين، وعدم المساواة بين المواطنين فحسب، بل هو، أيضاً، متوافق مع الأعراف الدولية، فيما يتعلق بقوانين السلم والحرب، فالمعتدي، بحسب القانون الدولي، ملزم بتحمل تكاليف اعتدائه، وما يترتب عليه من أضرار مادية ومعنوية.

B5DE41FA-C582-458B-8381-0DB8027FFEB8
زكريا بن خليفة المحرمي

طبيب وباحث في الفكر العربي من سلطنة عمان، من مؤلفاته "إستئناف التاريخ... المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر" و"الصراع الأبدي" و"جدلية الرواية والدراية".