11 سبتمبر 2024
الجزائر.. في الملاعب وغيرها
لم تمض إلا أيام قليلة على حادثة انسحاب فريق القوة الجوية العراقي من مباراته مع اتحاد العاصمة الجزائري، احتجاجا على صيحات المناصرين الهاتفة باسم الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، حتى عادت جماهير الفريق نفسها إلى نشر هتافات أطبقت سمعتها الآفاق عبر وسائل التواصل الجماهيري، عنوانها بالعامية الجزائرية "الجزائر فقيرة قاستها الكوليرا والدولة مسوفجة". وتختصر هذه الجملة رفض هذه الجماهير الوضع القائم في الجزائر، وما آلت إليه الأرقام الاقتصادية والأداءات السياسية. وجاءت كلمات الأغنية قاسية في النقد، رافدة حمولة غضب عارم، بدأت تتسع رقعته منذ فترة. رفضت جماهير فريق اتحاد الجزائر أولا مناشدة المناشدين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مواصلة الحكم للمرة الخامسة على التوالي، فالدولة الجزائرية في نظرها أصبحت "مارقة"، لم تستطع حتى تجنب الكوليرا وأوبئة القرون الوسطى. ولم تكتف الأغنية (أو الأهزوجة) التي بدأ يتردد صداها في مدرجات الملاعب بإدراج سلبيات النظام، بل وتجاوزت صرخات حناجرها المحظور أو تكاد، برفض كل ما يأتي من أجهزة النظام وأعوانه.
يندرج تصرف جماهير "اتحاد الجزائر" ضمن ظاهرة بدأت تنتشر في مدرجات الملاعب الجزائرية، وأصبحت تشكل صداعا مزمنا للسلطة التي راوغت كثيرا في إبعاد الجماهير عن مزاولة السياسة، إما عبر شرائها ولاءات الأحزاب، أو باختراق أحزاب المعارضة وتعطيل أدائها.
في خضم معترك البحث عن استقرار سياسي يخدم مصالح الطبقة القابضة على زمام الأمور، لم تلتفت السلطة إلى أن غياب الفضاء السياسي المنظم سيؤدي، لا محالة، إلى جنوح ذلك الفعل إلى فضاءات أخرى، عصية عن متناول يد السلطة، لعل الملاعب أبرز تمظهراتها. لقد منعت السلطة تنظيم المسيرات والمظاهرات عبر الشارع العام، وضيقت على المعارضين، وصمّت آذانها عن صيحاتهم، بتطبيقها سياسة الهروب إلى الأمام. تقول السلطة في الجزائر إنها لا تشتكي من أزمة حكم، وأن الأمور تسير على ما ترومه، وأن التنمية قائمة. بل ولا ينفكّ الوزراء للاستدلال على ذلك باستعراض المشاريع وميزانياتها.
غير ذلك تردده صيحات مدرجات الملاعب التي أصبحت المتنفس الوحيد للجماهير في مزاولة حقها في التعبير، فعدم ثقتها في الانتخابات أدّى إلى تراجع المشاركة فيها إلى أرقام متدنية، أذهلت السلطات نفسها. سبب ذلك غياب الثقة في أجهزة الدولة، حيث أصبحت الانتخابات
النيابية أو البلدية أو الرئاسية مجرد ديكور، كما تقول جماهير الكرة التي تحوّلت إلى لعب دور آخر بعيدا عن كرة القدم، فشباب كثيرون يرتادون الملاعب للتنفيس عن تهميشهم في الحياة العامة، وللتعبير عن انشغالاتهم الحقيقية من غياب لفرص العمل، أزمة السكن، الحرمان العاطفي وغيرها من مشكلات الحياة اليومية. أما السلطة فتتهم جهات خفية، من دون أن تسمّيها، بالعمل على زعزعة الاستقرار، والتغرير بهؤلاء الشبان، وزجّهم في مجاهل العصيان.
عدم الثقة بين السكان والسلطات فاقمتها عثرات اللسان التي يكرّرها مسؤولون رفيعون ووزراء، بوعود تنموية لا يتم الوفاء بها، أو الإدلاء بتصريحات يتبين عدم صحتها فيما بعد. ولعل أحدث مثال ما قام به سكان مدينة سيدي الكبير في ولاية البليدة، فعقب قول وزير الصحة إن منبع المدينة هو مصدر وباء الكوليرا الذي ضرب محافظتي البليدة والجزائر العاصمة المتجاورتين، توجه السكان إلى النبع المشهور بمياهه المعدنية، وشربوا منه مباشرةً أمام عدسات الكاميرات، في تحدّ صارخ لقول الوزير، فاعترفت الوزارة بخطئها في تحديد مصدر الوباء، وتراجعت عن قول مسؤولها الأول، ثم أرجعت سبب الوباء إلى تلوث مجرى مائي آخر في الولاية نفسها.
لم يكتف مناصرو الفرق الكروية بممارسة "السياسة في الملاعب"، بالحديث في الشأن المحلي الجزائري، بل تعدّوه إلى الحديث في العلاقات الدولية، حيث وجدت الديبلوماسية الجزائرية نفسها في مأزق وجوب الرد عن استفسارات الدول الأخرى بشأن ما يحدث في ملاعب الجزائر. فقد اضطر وزير الخارجية، عبد القادر مساهل، على هامش أعمال جامعة الدول العربية في القاهرة أخيرا إلى لقاء نظيره العراقي، إبراهيم الجعفري، للرد على استفساراته عما شهدته مباراة فريقي اتحاد الجزائر والقوة الجوية العراقي، بعد انسحاب الأخير منها على وقع هتاف الجمهور الجزائري باسم صدام حسين. تزامنت حادثة المباراة الفريقين مع أحداث البصرة ومظاهراتها المطالبة بالتنمية، والتي أعقبها بأيام خروج سكان مدينة ورقلة في الجنوب الجزائري للغرض نفسه، فهم أيضا يعانون العطالة ولدغات العقارب. وما يجمع المدينتين أنهما نائمتان على بحر من النفط، وأنهما مصدر المال الذي يتمتع به أهل النفوذ، وأن كلتيهما كما قال أحمد شوقي في الهمّ شرق.
سبق المباراة بأشهر قليلة تلقي الحكومة الجزائرية احتجاجا من الحكومة السعودية بشأن لافتة كبيرة حملها جمهور فريق عين مليلة في شرق الجزائر، عليها صورة نصفية للعاهل السعودي والرئيس الأميركي، تنديدا بما رآه الجمهور تقاربا بين بلديهما أدى إلى ما تسمى صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية. واضطُرت الحكومة الجزائرية إلى الاعتذار للمملكة، وأغلقت ملعب عين مليلة إلى أجل غير مسمّى. واعتقدت السلطات أنها بغلق الملعب تغلق أفواه مناصري فرق كرة القدم، لكنها لم تأخذ في الحسبان أنه ليس لدى هذه الجماهير "المنفلتة" ما تخسره، وأن عليها تدبير أساليب أخرى غير المواجهة، للحد من صراخ هذه الحناجر.
يندرج تصرف جماهير "اتحاد الجزائر" ضمن ظاهرة بدأت تنتشر في مدرجات الملاعب الجزائرية، وأصبحت تشكل صداعا مزمنا للسلطة التي راوغت كثيرا في إبعاد الجماهير عن مزاولة السياسة، إما عبر شرائها ولاءات الأحزاب، أو باختراق أحزاب المعارضة وتعطيل أدائها.
في خضم معترك البحث عن استقرار سياسي يخدم مصالح الطبقة القابضة على زمام الأمور، لم تلتفت السلطة إلى أن غياب الفضاء السياسي المنظم سيؤدي، لا محالة، إلى جنوح ذلك الفعل إلى فضاءات أخرى، عصية عن متناول يد السلطة، لعل الملاعب أبرز تمظهراتها. لقد منعت السلطة تنظيم المسيرات والمظاهرات عبر الشارع العام، وضيقت على المعارضين، وصمّت آذانها عن صيحاتهم، بتطبيقها سياسة الهروب إلى الأمام. تقول السلطة في الجزائر إنها لا تشتكي من أزمة حكم، وأن الأمور تسير على ما ترومه، وأن التنمية قائمة. بل ولا ينفكّ الوزراء للاستدلال على ذلك باستعراض المشاريع وميزانياتها.
غير ذلك تردده صيحات مدرجات الملاعب التي أصبحت المتنفس الوحيد للجماهير في مزاولة حقها في التعبير، فعدم ثقتها في الانتخابات أدّى إلى تراجع المشاركة فيها إلى أرقام متدنية، أذهلت السلطات نفسها. سبب ذلك غياب الثقة في أجهزة الدولة، حيث أصبحت الانتخابات
عدم الثقة بين السكان والسلطات فاقمتها عثرات اللسان التي يكرّرها مسؤولون رفيعون ووزراء، بوعود تنموية لا يتم الوفاء بها، أو الإدلاء بتصريحات يتبين عدم صحتها فيما بعد. ولعل أحدث مثال ما قام به سكان مدينة سيدي الكبير في ولاية البليدة، فعقب قول وزير الصحة إن منبع المدينة هو مصدر وباء الكوليرا الذي ضرب محافظتي البليدة والجزائر العاصمة المتجاورتين، توجه السكان إلى النبع المشهور بمياهه المعدنية، وشربوا منه مباشرةً أمام عدسات الكاميرات، في تحدّ صارخ لقول الوزير، فاعترفت الوزارة بخطئها في تحديد مصدر الوباء، وتراجعت عن قول مسؤولها الأول، ثم أرجعت سبب الوباء إلى تلوث مجرى مائي آخر في الولاية نفسها.
لم يكتف مناصرو الفرق الكروية بممارسة "السياسة في الملاعب"، بالحديث في الشأن المحلي الجزائري، بل تعدّوه إلى الحديث في العلاقات الدولية، حيث وجدت الديبلوماسية الجزائرية نفسها في مأزق وجوب الرد عن استفسارات الدول الأخرى بشأن ما يحدث في ملاعب الجزائر. فقد اضطر وزير الخارجية، عبد القادر مساهل، على هامش أعمال جامعة الدول العربية في القاهرة أخيرا إلى لقاء نظيره العراقي، إبراهيم الجعفري، للرد على استفساراته عما شهدته مباراة فريقي اتحاد الجزائر والقوة الجوية العراقي، بعد انسحاب الأخير منها على وقع هتاف الجمهور الجزائري باسم صدام حسين. تزامنت حادثة المباراة الفريقين مع أحداث البصرة ومظاهراتها المطالبة بالتنمية، والتي أعقبها بأيام خروج سكان مدينة ورقلة في الجنوب الجزائري للغرض نفسه، فهم أيضا يعانون العطالة ولدغات العقارب. وما يجمع المدينتين أنهما نائمتان على بحر من النفط، وأنهما مصدر المال الذي يتمتع به أهل النفوذ، وأن كلتيهما كما قال أحمد شوقي في الهمّ شرق.
سبق المباراة بأشهر قليلة تلقي الحكومة الجزائرية احتجاجا من الحكومة السعودية بشأن لافتة كبيرة حملها جمهور فريق عين مليلة في شرق الجزائر، عليها صورة نصفية للعاهل السعودي والرئيس الأميركي، تنديدا بما رآه الجمهور تقاربا بين بلديهما أدى إلى ما تسمى صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية. واضطُرت الحكومة الجزائرية إلى الاعتذار للمملكة، وأغلقت ملعب عين مليلة إلى أجل غير مسمّى. واعتقدت السلطات أنها بغلق الملعب تغلق أفواه مناصري فرق كرة القدم، لكنها لم تأخذ في الحسبان أنه ليس لدى هذه الجماهير "المنفلتة" ما تخسره، وأن عليها تدبير أساليب أخرى غير المواجهة، للحد من صراخ هذه الحناجر.