31 أكتوبر 2024
الجزائر.. شروط داخلية أم أجندة خارجية؟
تندلع، في كل الدول، من حين إلى آخر، أحداث اجتماعية للمطالبة بتحسين الأوضاع، وممارسة الضغط قصد التراجع عن حزمة قراراتٍ قد تقدم عليها حكومة من الحكومات، وقد تكون هذه الأحداث عفويةً لا يقف وراءها بشكل مباشر تنظيم معين، على اعتبار أن الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي الطاقة المحرّكة للاحتجاجات والمغذية غضب فئات واسعة من المواطنين، وقد تتبناها قوى سياسية أو نقابية أو مدنية، من دون الحاجة إلى الاختفاء أو التستر. حدث هذا ويحدث بشكل مستمر، حتى في الدول الصاعدة سياسيا واقتصاديا، غير أن الأحداث التي نشبت في مدينة بجاية الجزائرية، وتحديدا في منطقة "لقبايل" مع حلول السنة الجديدة، وما رافقها من أعمال عنف وإتلاف ممتلكات وإحراق منشآت، فسرته السلطات الجزائرية بطريقة غريبة وغير مقنعة، وتم إشهار ورقة التآمر واستعمالها للنيل من الاستقرار الذي تنعم به الجزائر.
ويبعث على الصدمة أن وزير السكن، عبد المجيد تبون، بلغة الواثق مما يملكه من أدلة وبراهين، يكيل لمواطنته خديجة بن قنة العاملة في قناة الجزيرة سيلا من الشتائم، كما فعل بشأن موقع إخباري في المغرب، قال إنه مقرب من إسرائيل وممول منها، وزاد أنهما، بن قنة والموقع المغربي، وموقعين في فرنسا وآخرين في إسرائيل وألمانيا، يقفون وراء ما اعتبرها فتنة ونقمة حلت بالجزائر، وتحديدا ببجاية التي عبر فيها شباب متذمر عن سخطه، وقام بتوجيه رسائل إلى مراكز صناعة القرار بشأن ما أصبح يعانيه من بطالة وضيقٍ في أفق الأمل. وبلغت تصريحات المسؤولين الجزائريين درجةً من الشعبوبة والديماغوجية، عندما أشاد الوزير الأول عبد المالك سلال بعائلات تبرأت من أبنائها وفلذات أكبادها إذ قادتهم إلى مقرّات الشرطة، لتشهد ضدهم، ووصف هذا السلوك بأنه نضج سياسي، وقال "الربيع العربي لا نعرفه ولا يعرفنا"، والجزائر، حسب تصريحه، ليست سهلة الانقياد، وإن هناك نوايا سيئة لزعزعة الاستقرار فيها، وجرّها إلى الفتنة والاحتراب، وأضاف "هناك أطراف مجهولة مكلفة بمهمة".
وإذا كان رجال النظام يعتبرون أنهم يتحكّمون في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ويحترمون التعهدات التي قطعها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على نفسه، وأن الجزائر بلد
القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات وينعم بالأمن والاستقرار، فلماذا ينزعجون من إشارة البنك الدولي إلى وجود عجز في الموازنة، ووجود إجراءات تقشفية قد تكون نتيجة منطقية لتراجع أسعار البترول في الأسواق العالمية؟ ليست المعطيات والمؤشرات المالية والاقتصادية من صنع الخيال، ولا يمكن تصنيف من يستند إليها في تعليل ما حصل بأنه من سلالة المتآمرين والخائنين الذين يخدمون أجندة خارجيةً تتغيا الإجهاز على الأمن والاستقرار الذي تحقق بفضل المصالحة بين مكونات المجتمع الجزائري، والوفاق الذي تبلور إطاراً للقطع مع خيار العنف الذي أزهق آلاف الأرواح، وأنهك البلاد.
لا أحد يتمنى للجزائر أن تنزلق إلى الأسوأ، وليس هناك جار عاقل يقتسم معها التاريخ والجغرافيا واللغة والقيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية يفكّر في توفير شروط انتفاضة عنيفة ومقومات فتنة مدمرة، كما أن أي ممارسةٍ غير مسؤولةٍ وخارج القانون لا يمكن إلا أن تكون موضوع رفض وتنديد، بيد أن المنهجية المتبعة من السلطات الجزائرية في تعاطيها مع ما شهدته مدينة بجاية من فلتان أمني دفعها إلى البحث، بكل الوسائل، عن مشجبٍ تعلق عليه مسؤولية ما حدث، بما في ذلك اتهام المغرب، بالإشارة إلى تورّط موقع إلكتروني مغربي مقرّب وممول من إسرائيل. ويُقترف هذا الخطأ السياسي والإعلامي من دون مراعاة ما يمكن أن يُحدثه موقفٌ من هذا القبيل من استياء ومزيد من التوتر في العلاقات الثنائية.
تعوّد الشعب الجزائري، بعد كل احتجاج يقع، أن يطل عليه مسؤولون، عبر وسائل الإعلام، لترديد الاتهام الوحيد والجاهز، وهو أن "الأحداث تحرّكها أياد خارجية"، من دون أن يتم تحديد هوية الفاعل. وليس هذا غريباً على آلة سياسية وأمنية وإعلامية، تعمل بإجهاد للإبقاء على الصورة المثالية لأعمدة الحكم، ومن ينتدبون أنفسهم للترافع عنهم، قصد تبييض سجلاتهم وتسويغ اختياراتهم.
تتابع الطبقة السياسية في الجزائر، وكل ألوان الطيف الحاكم ومختلف وسائل الإعلام هناك، الاحتجاجات التي عرفتها وما زالت تعرفها، مدينة الحسيمة في منطقة الريف شمال شرق المغرب، بعد وفاة بائع السمك، محسن فكري، بطريقة مأساوية، صدمت الرأي العام المغربي. وتشبه هذه المدينة التي أنجبت أمير المجاهدين، عبد الكريم الخطابي الذي لقن درسا للاستعمار الإسباني، إلى حد كبير، مدينة بجاية بحكم الخصوصية الثقافية واللغوية والسوسيولوجية التي تميزهما، وهي تشهد منذ حوالي ثلاثة أشهر سلسلة اعتصامات واحتجاجات تتخللها شتى الشعارات، بما فيها التي تنطوي على نقد لاذع للحكم في المغرب، وشكلت حادثة وفاة بائع السمك الشرارة التي أشعلت غضبا شعبيا واسعاً، في عدة مدن مغربية، أطلق عليه حراك "الحكرة". ويعرف الشعب الجزائري مغزى هذه الكلمة أكثر من أي شعب آخر. وتجسَّد الغضب في عشرات المظاهرات الشعبية، ومع ذلك، لم يتحدث أي مسؤول أو وسيلة إعلامية مهنية تحترم أخلاقيات الصحافة، أو حتى سياسي من صنف الهواة، أن الأمر يتعلق بمؤامرة صنعتها أياد خارجية، ولم يتم أي تلميح إلى تورط بلد جار بأجندة معينة، علما أن ما حدث ويحدث في الحسيمة، وغيرها من المدن المغربية، يتزامن مع ظرفيةٍ سياسيةٍ انتقالية، ميزها صعوبة كبيرة في تشكيل الحكومة، بسبب شروطٍ يطرحها شركاء محتملون من الأحزاب السياسية، ولم تقنع رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، بواقعيتها.
ظلت العلاقة بين الجزائر والمغرب طوال عقود سجينة ذاكرة جريحة ومشحونة بصور نمطية،
تستهلك في هذا البلد أو ذاك، وتغذّيها وسائل الإعلام في لحظات التوتر العالي، وخصوصاً في الجزائر. وكانت الاتهامات السمة المميزة لكل فترات الاحتقان، لكنها ستتراجع نسبيا في خضم اندلاع التوتر الأمني الشديد في الجزائر، إذ ستفرض إستراتيجية مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة تهميشا ملحوظا لجبهة بوليساريو، فالأولوية ستعطى لقطع دابر منتجي الإرهاب، ومنعشي الحرب الأهلية. لكن الماسكين بزمام الأمور في قصر المرادية، ومن منطلق أن "بوليساريو" هي أيضا رأسمال نفيس في مستوى الغاز والنفط، صعّدوا عداءهم، وعبأوا قدراتهم، لمعاكسة المغرب والبحث بكل الوسائل لإجهاض مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها عام 2007 لإيجاد تسوية سلمية وواقعية لنزاع الصحراء.
وفيما ينتظر أن يشارك الملك محمد السادس في القمة الأفريقية التي ستنعقد أواخر يناير/ كانون الثاني الجاري في أديس أبابا، وهو ما يعني احتمال العودة إلى العمل المؤسسي داخل أجهزة الاتحاد الأفريقي بعد غياب 33 سنة، تبذل الحكومة الجزائرية جهودا حثيثة لعرقلة هذه العودة، وتأليب دول محسوبة على المحور الداعم لجبهة بوليساريو لإجهاض طلب المغرب، علما أن قرار الرباط لقي تأييد أغلبية الدول الأفريقية. وتنظر الجزائر إلى الخطوة المغربية بتوجس كثير، وكأن عودة المغرب إلى أحضان الأسرة الأفريقية ستترجم هزيمة للدبلوماسية الجزائرية. ويرى المغرب في مواقف السلطات الجزائرية تبديدا للآمال، ما يجعل النفوس تؤمن بوجود توجه داخل الجزائر يقف في وجه المصالحة، وينتصر لخيار تسميم العلاقات الثنائية، ما يرجع ربما إلى وجود جماعات مصالح رافضة أي تطور إيجابي ووحدوي للعلاقات، وتحرص على تحصين امتيازاتها، وهناك من يغذي إيديولوجيا ضيقة، تعتبر التقارب مع المغرب تنازلاً يجب التصدي له.
ويبعث على الصدمة أن وزير السكن، عبد المجيد تبون، بلغة الواثق مما يملكه من أدلة وبراهين، يكيل لمواطنته خديجة بن قنة العاملة في قناة الجزيرة سيلا من الشتائم، كما فعل بشأن موقع إخباري في المغرب، قال إنه مقرب من إسرائيل وممول منها، وزاد أنهما، بن قنة والموقع المغربي، وموقعين في فرنسا وآخرين في إسرائيل وألمانيا، يقفون وراء ما اعتبرها فتنة ونقمة حلت بالجزائر، وتحديدا ببجاية التي عبر فيها شباب متذمر عن سخطه، وقام بتوجيه رسائل إلى مراكز صناعة القرار بشأن ما أصبح يعانيه من بطالة وضيقٍ في أفق الأمل. وبلغت تصريحات المسؤولين الجزائريين درجةً من الشعبوبة والديماغوجية، عندما أشاد الوزير الأول عبد المالك سلال بعائلات تبرأت من أبنائها وفلذات أكبادها إذ قادتهم إلى مقرّات الشرطة، لتشهد ضدهم، ووصف هذا السلوك بأنه نضج سياسي، وقال "الربيع العربي لا نعرفه ولا يعرفنا"، والجزائر، حسب تصريحه، ليست سهلة الانقياد، وإن هناك نوايا سيئة لزعزعة الاستقرار فيها، وجرّها إلى الفتنة والاحتراب، وأضاف "هناك أطراف مجهولة مكلفة بمهمة".
وإذا كان رجال النظام يعتبرون أنهم يتحكّمون في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ويحترمون التعهدات التي قطعها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على نفسه، وأن الجزائر بلد
لا أحد يتمنى للجزائر أن تنزلق إلى الأسوأ، وليس هناك جار عاقل يقتسم معها التاريخ والجغرافيا واللغة والقيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية يفكّر في توفير شروط انتفاضة عنيفة ومقومات فتنة مدمرة، كما أن أي ممارسةٍ غير مسؤولةٍ وخارج القانون لا يمكن إلا أن تكون موضوع رفض وتنديد، بيد أن المنهجية المتبعة من السلطات الجزائرية في تعاطيها مع ما شهدته مدينة بجاية من فلتان أمني دفعها إلى البحث، بكل الوسائل، عن مشجبٍ تعلق عليه مسؤولية ما حدث، بما في ذلك اتهام المغرب، بالإشارة إلى تورّط موقع إلكتروني مغربي مقرّب وممول من إسرائيل. ويُقترف هذا الخطأ السياسي والإعلامي من دون مراعاة ما يمكن أن يُحدثه موقفٌ من هذا القبيل من استياء ومزيد من التوتر في العلاقات الثنائية.
تعوّد الشعب الجزائري، بعد كل احتجاج يقع، أن يطل عليه مسؤولون، عبر وسائل الإعلام، لترديد الاتهام الوحيد والجاهز، وهو أن "الأحداث تحرّكها أياد خارجية"، من دون أن يتم تحديد هوية الفاعل. وليس هذا غريباً على آلة سياسية وأمنية وإعلامية، تعمل بإجهاد للإبقاء على الصورة المثالية لأعمدة الحكم، ومن ينتدبون أنفسهم للترافع عنهم، قصد تبييض سجلاتهم وتسويغ اختياراتهم.
تتابع الطبقة السياسية في الجزائر، وكل ألوان الطيف الحاكم ومختلف وسائل الإعلام هناك، الاحتجاجات التي عرفتها وما زالت تعرفها، مدينة الحسيمة في منطقة الريف شمال شرق المغرب، بعد وفاة بائع السمك، محسن فكري، بطريقة مأساوية، صدمت الرأي العام المغربي. وتشبه هذه المدينة التي أنجبت أمير المجاهدين، عبد الكريم الخطابي الذي لقن درسا للاستعمار الإسباني، إلى حد كبير، مدينة بجاية بحكم الخصوصية الثقافية واللغوية والسوسيولوجية التي تميزهما، وهي تشهد منذ حوالي ثلاثة أشهر سلسلة اعتصامات واحتجاجات تتخللها شتى الشعارات، بما فيها التي تنطوي على نقد لاذع للحكم في المغرب، وشكلت حادثة وفاة بائع السمك الشرارة التي أشعلت غضبا شعبيا واسعاً، في عدة مدن مغربية، أطلق عليه حراك "الحكرة". ويعرف الشعب الجزائري مغزى هذه الكلمة أكثر من أي شعب آخر. وتجسَّد الغضب في عشرات المظاهرات الشعبية، ومع ذلك، لم يتحدث أي مسؤول أو وسيلة إعلامية مهنية تحترم أخلاقيات الصحافة، أو حتى سياسي من صنف الهواة، أن الأمر يتعلق بمؤامرة صنعتها أياد خارجية، ولم يتم أي تلميح إلى تورط بلد جار بأجندة معينة، علما أن ما حدث ويحدث في الحسيمة، وغيرها من المدن المغربية، يتزامن مع ظرفيةٍ سياسيةٍ انتقالية، ميزها صعوبة كبيرة في تشكيل الحكومة، بسبب شروطٍ يطرحها شركاء محتملون من الأحزاب السياسية، ولم تقنع رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، بواقعيتها.
ظلت العلاقة بين الجزائر والمغرب طوال عقود سجينة ذاكرة جريحة ومشحونة بصور نمطية،
وفيما ينتظر أن يشارك الملك محمد السادس في القمة الأفريقية التي ستنعقد أواخر يناير/ كانون الثاني الجاري في أديس أبابا، وهو ما يعني احتمال العودة إلى العمل المؤسسي داخل أجهزة الاتحاد الأفريقي بعد غياب 33 سنة، تبذل الحكومة الجزائرية جهودا حثيثة لعرقلة هذه العودة، وتأليب دول محسوبة على المحور الداعم لجبهة بوليساريو لإجهاض طلب المغرب، علما أن قرار الرباط لقي تأييد أغلبية الدول الأفريقية. وتنظر الجزائر إلى الخطوة المغربية بتوجس كثير، وكأن عودة المغرب إلى أحضان الأسرة الأفريقية ستترجم هزيمة للدبلوماسية الجزائرية. ويرى المغرب في مواقف السلطات الجزائرية تبديدا للآمال، ما يجعل النفوس تؤمن بوجود توجه داخل الجزائر يقف في وجه المصالحة، وينتصر لخيار تسميم العلاقات الثنائية، ما يرجع ربما إلى وجود جماعات مصالح رافضة أي تطور إيجابي ووحدوي للعلاقات، وتحرص على تحصين امتيازاتها، وهناك من يغذي إيديولوجيا ضيقة، تعتبر التقارب مع المغرب تنازلاً يجب التصدي له.