الجزائر... بلد لتنافس الفيروسات

01 ابريل 2020
+ الخط -
أنتم فيروس كورونا بعينه، هكذا صرخ جارنا المسن في وجوه صبية كانوا قد عكّروا عليه صفوته اللّيلية، بقهقهات تعالت إلى نافذته. لم يكتف بتلك الصرخة، بل أردف وحنجرته تتألّم من شدّة الغضب: "صدّقوني لسنا بحاجة لمقاومة فيروس مصدّر من الصين، فحياتنا في هذا البلد، من ولوج الطفل إلى دنياه حتّى مغادرتها ملخّص لصراعات مع فيروسات قاتلة".

كُنت لحظتها أسترق النظر من نافذتي المطلّة على الشارع، والحيرة تعتريني، أأضحك من شدّة انفعال جارنا وما نتج عنه من صراخ، أم أبكي لمرّ كلامه الصادق ؟ اكتفيت برسم ابتسامة، أشرقت ملامح وجهي المفتقر إلى لفحات الشمس، ثم أغلقت نافذتي المطلّة على شارع حيّنا الكئيب المرصّع بنفايات سامّة، لأفتح أخرى على حاسوبي لا يقلّ منظرها سوءاً عن الأولى.

كانت تلك النافذة تُفصح عن عالم مكتظّ بمعلومات عن فيروس كورونا، يصعب على المرء انتقاء ما يستهلك منها. وبما أنّ الإنسان ابن بيئته كما يقال، قادني نظري إلى مقال يتحدّث عن دور الدولة الجزائرية في التصدّي لهذه الجائحة.

لم تقفز عين واحدة إلى الفقرة الثانية، حتّى انصدمت الأخرى بوجود متلازمة العنصرية، كعنصر فاعل بين السطور، يستخدمه الكاتب لانتقاد تصرفات غير مسؤولة لبعض أفراد منطقة توجد شرق الجزائر العاصمة إزاء الالتزام بالوضع الصحّي للبلاد؛ بعبارة أخرى يداوي الجرح بالوباء.


تعجّبت في بادئ الأمر لحال أكاديمي مثقّف يحيي صور الجاهلية الغابرة، ليستنقص من قيمة نساء منطقة على حساب أخرى، مصوراً إيّاهن على شاكلة وباء متحرّك يفسد ما على أرض الجزائر ويهلك ما فيها من حرث ونسل. لكن سرعان ما خفّت حدّة التعجّب عندما تذّكرت أفاعيل بعض من يدير شأن الجزائر اليوم، من تنقيب في مزابل التاريخ وإحياء لناعورة العنصرية، في سبيل التجذّر الأبدي. كلّ هذا يحدث وسط استحسان مختلف مكونات المجتمع، دون مراعاة خطورة هذا فيروس الذي قد يؤدّي بدول إلى الزوال.

بالكاد كنت سأغلق نافذة المقال المزعج، حتّى دقّ جرس باب العالم الأزرق، حاملاً رسالة صديق، تُظهر صوراً لحلبة مصارعة، لكن تبيّن في ما بعد أنّها صور مباراة كرة قدم كانت قد جمعت قبل أسابيع قليلة جارتي الشرق الجزائري، نادي أهلي برج بوعريريج ووفاق سطيف، حيث أعقبتها اعتداءات وأعمال تخريب لمرافق الملعب، في صورة مناقضة لسلميّة الحراك التي أبهرت شعوب العالم. هنا ازددت حيرة وتساءلت: هل هي الصورة الحقيقة للمجتمع الجزائري، أم يتعلّق الأمر بحالة شاذّة نجهل أسبابها؟ أليس فيروس العنف والتعصّب من كانا سبباً في مقتل آلف الجزائريين بالأمس القريب؟

وبما أنّني من أولئك الذين يلعنون التاريخ، فضّلت الهروب نحو باب العالم الأزرق، الذي كان قد فُتح على مصراعيه، لأعيش حاضري لا ذلك الماضي المشؤوم. كانت الأخبار تتدفّق كلّ ما مسحتُ بإصبعي صاعداً إلى أعلى شاشة الهاتف، إلى أن توقّف المسح وتجمّدت معه الإصبع لهول الخبر: الحُكم على الناشط السياسي كريم طابو بسنة سجن نافذة.. إيداع الصحافي خالد درارني بالسجن المؤقّت لتهمة "التحريض على التجمهر غير المسلّح".

تغلغلت المشاعر لحظتها وغصت في تفكير عميق، أتصوّر فيه مستقبل دولة لا يزال نظامها في القرن الحادي والعشرين، يسجن أبناءه لأجل تصريح أو موقف من جهة معيّنة! وانطلق بعدها قلبي العاطفي في محاكمة روتينيّة للمنطق العقلاني: هل يمكن يوماً أن يصبح لمثل هذه الدولة شأن وسط عالمنا الموحش، وصنّاع القرار فيها يمنعون المواطنين من أبسط حقّ للحرية؟ وكيف يمكن لشعب أن يثق بنظام يدّعي التوبة والتجدّد، والعادلة فيه لا تزال تُكال بمكيالين ؟ وهل من الشهامة استغلال محنة للفتك بأحلامه؟

لم أجد لتلك المشاعر الجيّاشة من متنفّس، سوى نافذة صَديقي أسفل الشاشة، المملوءة برسائله عن أساطير صُنع فيروس كورونا ونظريات المؤامرة الأميركية والصهيونية ضدّ دول شريفة كالجزائر، لأنفث فيها أوجاعي: أين حراكنا الحالم؟ أين جزائرنا الجديدة؟ أين الدولة التي أردنا لها المجد والعُلا؟ أسنرحل عن دُنيانا دون أن نعرف للكرامة معنى؟ ألن يحصل أن نفتخر بإنجاز أمام الأُمم؟ لماذا كلّ هذه القسوة في حقّنا؟

لم تكن أصابعي قد خفّفت قسوتها على لوحة المفاتيح، مترجمةً تلك الأوجاع والأحاسيس، حتّى وصلني الردّ مفحماً: "هكذا حال أو تَتدخّل قوات الناتو في بلادنا؟".. أحسست لحظتها كل أعراض الكورونا تنقضّ على جسدي الهزيل، فسارعت بإغلاق منفذي الأخير إلى عالم الجزائر المريض، مستنجداً بعزلتي.. إنّها كورونا وأخواتها.