لم يحدث خلال 20 عاماً من حكم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، أن مزّقت مجموعات غاضبة صورة الرئيس وحطمت صوراً أخرى كانت معلقة داخل مقر حكومي، لكن إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية رئاسية خامسة، رغم ظروفه الصحية التي تعيقه عن إدارة شؤون البلاد، استدعت في الشارع الجزائري احتجاجات من هذا النوع.
ومن هذه الخلفية، تبدو الجزائر، اليوم الجمعة، على موعدٍ مع مشهد ميداني، تلبية لدعوات وجّهتها مجموعات ناشطة معارضة، كانت تنشط في حركة "بركات" (تعني كفاية) المعارضة، للتظاهر بعد صلاة الجمعة، في العاصمة الجزائرية وكل المدن في البلاد، ضد ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، في الانتخابات المقررة في 18 إبريل/نيسان المقبل. وتمّ التمهيد لليوم، بسلسلة تظاهرات شهدتها مدن عدة، كانت أبرزها وأكثرها ضخامة مسيرة مدن خراطة وبجاية وخنشلة في الشرق الجزائري، يوم السبت الماضي.
ويتوقع ناشطون استجابة لافتة لدعوات التظاهر، بسبب تصاعد الاحتقان الشعبي وشعور قطاع واسع من الجزائريين بالإهانة بسبب ترشح بوتفليقة. وقال الناشط عبد الوكيل بلام، لـ"العربي الجديد"، إن "قطاعاً واسعاً من الجزائريين شعروا بخدش في كرامتهم". وأضاف الرجل الذي كان أحد أبرز الداعين إلى التظاهر في العاصمة الجزائر، بعدما كان قد قاد ضمن حركة "بركات" تظاهرات عدة، اعتراضاً على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في انتخابات إبريل 2014، أن "الجزائريين يشعرون بالإساءة البالغة للتاريخ السياسي الحديث للبلاد، بسبب إصرار السلطة على ترشح رئيس مريض، لا تتوفر فيه شروط القدرة البدنية لإدارة شؤون الدولة واستحقاقاتها".
بدوره، أكد الناشط المعارض سمير بلعربي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "في ظلّ الاحتقان الحاصل في الشارع منذ إعلان ترشح بوتفليقة لعهدة جديدة، والتصريحات الاستفزازية للقائمين على حملته الانتخابية، ومحاولات الموالين له استغلال إمكانيات الدولة لصالح الرئيس، أتوقع أن تكون هناك مشاركة شعبية عبر كل ولايات الجزائر، اليوم الجمعة وبعد غد الأحد".
ومع تصاعد الاحتقان وتوقعات بمشاركة في الشارع، يسعى الناشطون للدعوة إلى إبقاء التظاهرات والحراك الشعبي في إطار سلمي، ورفض أي تخريب أو استعمال للعنف من أية جهة كانت، فضلاً عن رفض أية استفزازات قد تصدر عن الأجهزة الأمنية. وقال الناشط المشارك في كتلة الداعين إلى التظاهر، عبد الغني بادي، لـ"العربي الجديد"، إنه "كناشطين نصرّ على السلمية ونبذ العنف، ودعونا الجزائريين إلى استخدام حقهم الدستوري الذي يتيح لهم التظاهر السلمي للتعبير عن موقفهم من الوضع الراهن، والذي نعتبره وضعا غير طبيعي في مسار البلد". وأشار إلى أنه "بخلاف من يدّعون أن التظاهر يعني الفوضى، فإن التظاهرات التي حدثت في بعض المدن وانتهت بسلمية وتنظيف الساحات أيضاً، أعطت مؤشراً طيباً على إمكانية نجاح الجزائريين في التعبير عن مواقفهم بسلمية، حرصاً على الأمن العام والسلم والبلد".
وإضافة إلى المجموعات النشطة من "بركات"، تبنّت حركة "مواطنة" المعارضة، وهي تكتل يضم قادة أحزاب سياسية وشخصيات مستقلة، دعوات للتظاهر في العاصمة الجزائرية ومختلف أنحاء البلاد، في 24 فبراير/شباط الحالي. واختارت "مواطنة" هذا التاريخ لتزامنه مع ذكرى تأميم المحروقات من قبل الرئيس الراحل هواري بومدين، في عام 1971، داعية الجزائريين إلى الدفاع عما وصفته "الكرامة وحق المواطنة، ومنع سرقة المستقبل، وإحباط محاولة المافيا السيطرة على مقدرات البلاد".
ووفّرت قوى المعارضة السياسية في البلاد الغطاء السياسي للتظاهرات المحتملة، فقد تبنّت 18 شخصية سياسية معارضة في الجزائر، مساء الأربعاء، التحركات الشعبية السلمية المناوئة لترشّح بوتفليقة وأعلنت مساندتها لها. وحذّرت، في المقابل، السلطة من مغبة قمع التظاهرات المرتقبة اليوم الجمعة، وحمّلتها مسؤولية أي انزلاق محتمل. وأكد بيان تكتل المعارضة الذي يضم قادة 12 حزباً سياسياً، بينهم مرشحون للرئاسة وست شخصيات مستقلة معارضة: "تثمين الاحتجاجات الشعبية السلمية وتأييدها"، مع توجيه تحذيرات إلى السلطة من "مواجهة المواطنين في ممارسة حقهم الدستوري في التظاهر والتعبير عن رفضهم لاستمرارية الوضع الحالي".
لكن تبنّي المعارضة السياسية للحراك السلمي المرتقب، لم يلغ جملة المخاوف من حدوث انزلاقات قد تعيد البلد إلى مربع الفوضى التي تتعافى منها بصعوبة، خصوصاً في ظل عدم وجود هيئة واضحة تؤطر الحراك من جهة، وعدم تقدم قوى المعارضة السياسية لتأطير التظاهرات المحتملة من جهة ثانية. وهي مخاوف دفعت السلطات إلى وضع مجمل الاحتمالات في الحسبان، إذ قطعت السلطات عطلات القادة الأمنيين، وألغت كل مقررات العطل إلى ما بعد الثالث من مايو/أيار المقبل، وبدأت تنفيذ خطة طوارئ احترازية، وُضعت بموجبها كامل قوات مكافحة الشعب في حالة تأهب. وباشرت السلطات تعزيز التواجد الأمني على مداخل المحاور الكبرى في العاصمة الجزائرية ووسطها، وأصدرت تعليمات إلى القيادات الأمنية الميدانية بتلافي أي احتكاك محتمل مع المتظاهرين، وتجنّب الاستفزاز، وضبط النفس، وعدم استعمال القوة، عدا فيما يتعلق بحالات حماية الممتلكات والمقرات العامة والخاصة. وهو ما يبدو واضحاً من خلال التعامل الأمني الليّن مع التظاهرات التي شهدتها مدن جزائرية عدة، كان آخرها مسيرة، أمس الخميس، في مدينة تيشي بولاية بجاية شرقي الجزائر، كما يُسجّل لها عدم تدخّلها في قضية تمزيق الصورة العملاقة لبوتفليقة في مدينة خنشلة، وتحطيم إطار للرئيس داخل مقر البلدية، في مدينة عنابة شرقي الجزائر.
لكن الاعتراض على ترشح بوتفليقة بدأ يأخذ أشكالاً أخرى، مع تعرّض قادة أحزاب موالية لبوتفليقة لمواجهة مباشرة مع ناشطين معارضين خلال لقاءات شعبية كان يعقدها هؤلاء. واعترض ناشطون على خطاب كان يلقيه رئيس حزب تجمع أمل الجزائر، عمار غول، في منطقة سيدي بلعباس، وطالبوه باستحضار العقل وعدم الكذب على الجزائريين بشأن صحة بوتفليقة على إدارة البلاد. كما منع ناشطون رئيس حزب التجمع الجمهوري، بلقاسم ساحلي، من استكمال خطابه في مدينة أم البواقي. ويؤشر هذا إلى صعوبات كبيرة ستواجهها الشخصيات التي ستخوض الحملة الانتخابية لصالح بوتفليقة في المدن الجزائرية.
وفي وقتٍ تراقب فيه السلطات والأجهزة الأمنية التطورات في الشارع، تصر الأحزاب الموالية لبوتفليقة على قدرته على قيادة البلاد لخمس سنوات أخرى. كما يجري مدير حملته الانتخابية، رئيس الحكومة السابق عبد المالك سلال، سلسلة من اللقاءات مع قادة تنظيمات مدنية موالية، كاتحاد المزارعين ونقابة العمال والاتحادات الطلابية، لدفعها تحت إغراءات سياسية إلى إعلان دعمها لبوتفليقة. وفيما تتكتل القوى الموالية لبوتفليقة، أخفقت قوى المعارضة، في المقابل، في الاتفاق على تسمية مرشح رئاسي موحد باسمها، وأرجأت ذلك إلى حين إعلان المجلس الدستوري، في 3 مارس/آذار المقبل، عن قائمة المرشحين المقبولة ملفات ترشحهم، لكن احتمالات توافق المعارضة على مرشح واحد تبقى ضعيفة جداً، بسبب رفض اللواء السابق في الجيش، المرشح الرئاسي علي غديري، المشاركة في مساعي التوافق، وتحقيق مرشح حركة "مجتمع السلم" (إخوان الجزائر) عبد الرزاق مقري، أشواطا كبيرة على طريق الترشح بعد طرحه، الأربعاء، برنامجه الانتخابي، وعدم حسم رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس مسألة ترشحه حتى الآن.
وأبدى الناشط عز الدين جرافة، اعتقاده، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "إخفاق المعارضة في توحيد مرشحها، سيزيد في حدة الإحباط من أي أمل في المعارضة نفسها". وأضاف أن "عدم نجاح قوى المعارضة في تقديم مرشح موحد لن يكون في صالحها مطلقاً، بل سيصبّ ذلك في صالح مرشح السلطة عبد العزيز بوتفليقة، لأن الكتلة الناخبة المعارضة ستكون مشتتة، والمعارضة في هذا الحال تتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية لتوحيد صفوفها وموقفها الانتخابي. كما أن وجود مرشح موحّد باسم المعارضة كان سيسهم في خلق الأمل لدى الجزائريين ويخفف من حالة الاحتقان في الشارع". ورأى أنه "يُضاف إلى ذلك حالة استياء من ناشطين وقوى شعبية من عدم إعلان المعارضة انضمامها إلى الحراك الشعبي المرتقب، وإعلانها موقفا وصف بالباهت في دعم الحراك من دون الدعوة إليه".
بين تصاعد الاحتقان الشعبي ودعوات التظاهر ضد ترشح بوتفليقة، وإخفاقات المعارضة وتبنّيها للحراك من دون المشاركة فيه، تجتاز الجزائر مرحلة سياسية بالغة الحساسية، زادتها المصاعب الاقتصادية والاجتماعية وتآكل احتياطي الصرف، وراكمت عليها مخاطر جدية، وسط إصرار من الشارع، يبدو هذه المرة أكبر من أي وقت سابق، على استعادة المبادرة لوقف حالة الانهيار، في ظلّ المخاوف من العودة إلى مربع الفوضى.
من جهته، أكد مصدر أمني مسؤول، لـ"العربي الجديد"، أن "السلطات وضعت احتمالات تحوّل بعض التظاهرات إلى اعتصام مفتوح في العاصمة الجزائرية والمدن الرئيسية في البلاد، على غرار الاعتصام الاحتجاجي ضد استغلال الغاز الصخري في مدينة عين صالح عام 2015، والذي دام أكثر من شهر، واعتصام العسكريين المتقاعدين والمعطوبين في عمليات مكافحة الارهاب، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، في المدخل الشرقي للعاصمة الجزائرية، واعتصام الأساتذة والمعلمين في منطقة بودواو في إبريل 2016". وأضاف أن "السلطات وضعت في الحسبان إمكانية تصعيد الموقف الاحتجاجي وتحوّل بعض التظاهرات إلى اعتصامات مفتوحة في الشارع والساحات العامة، وهو ما تعمل على تلافيه".