11 نوفمبر 2024
الجزائر.. إنهاء الحرب الأهلية وبدء التغيير السياسي
ما من شك في أن الحدث اللافت في العالم العربي هذا الأسبوع كان انطلاق المسيرات الشعبية الجزائرية، جمعة 22 شباط/ فبراير 2019، احتجاجا على ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. وهي تبدو من النسيج ذاته الذي شكّل مسيرات الاحتجاج الشعبي التي عرفتها الشعوب العربية الأخرى، منذ انتفاضة التونسيين في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، أعني هبّة شعبية عفوية أخرجت إلى الساحات والشوارع جمهورا واسعا تلبيةً لنداء مجهول الهوية هو نفسه، فاجأ أحزاب المعارضة، كما فاجأ الحكومة نفسها، من دون تنظيمٍ من أي نوع ولا سابق تصميم، كما لو أن الحقل لم يكن ينتظر سوى شرارة واحدة.
خروج هذه المسيرات في أكثر من مدينة جزائرية، بعد ما يقرب من عشرين عاما من الهدوء والتسليم بالأمر الواقع، يدل على أن الجزائريين خرجوا من الصدمة التي تسبّبت فيها العشرية الأخيرة من القرن الماضي، والتي نجح فيها نظام الحكم العسكري والأمني في بداية التسعينيات في إجهاض حركة شعبية قوية، كانت تهدف إلى تغيير قاعدة الحكم، بدفعها إلى التطرّف ونزع الشرعية عنها، وتفجير الحرب الأهلية، في سبيل التمديد لسيطرة حزب جبهة التحرير الوطني التي استغل أعضاؤها إرث قيادة الكفاح ضد المحتل من أجل تكريس حكم الحزب الواحد،
وتشكيل طبقة أوليغارشية عسكرية ومدنية، تتقاسم المنافع والامتيازات على حساب شعبٍ يزداد وضعه سوءا وبؤسا يوما بعد يوم. وعلى الأغلب، بعد مرور أكثر من جيلين على هذه الحرب، بدأت المناعة التي أنتجها القمع الدموي والقتل المنظم للمدنيين إزاء التظاهر والاحتجاج، تفقد
مفعولها، ما يعني أن إصرار النظام القائم على تمرير ولاية خامسة، لرئيسٍ لم يعد يقنع أحدا بقدرته على قيادة البلاد لسنوات خمس مقبلة، سوف يقود لا محالة إلى توسيع قاعدة حركة الاحتجاج، وتعميق لحمتها وتجذير شعاراتها، فليست ولاية بوتفليقة الخامسة هي المقصودة بالتظاهرات التي شهدتها الجزائر يوم الجمعة الماضي، إنما المطالب ذاتها التي حرّكت الجزائريين قبل ثلاثين عاما، والتي حرّكت أيضا قبل ذلك الجمهور العربي في أكثر من قطر في هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهي ببساطة تغيير النظام. وتغيير النظام
يعني تغيير قواعد الحكم التي قامت على إلغاء تداول السلطة، وتكريس سلطة نخبة واحدة وثابتة، تتحكّم بالقرار العام، وهذا هو الجانب السياسي من الموضوع، لكن أيضا تغيير نمط توزيع الثروة الذي قاد في المرحلة السابقة، في ظل تغييب الشعب وإلغاء السياسة، إلى تكوين طبقةٍ اجتماعيةٍ متميزةٍ، طفيليةٍ غالبا، تعيش على الامتيازات المكرّسة والمكاسب غير المشروعة وعلى الفساد، ولا تعنيها من قريب أو بعيد رعاية شؤون محكوميها أو التفكير في تحسين شروط معيشتهم ومستقبل أبنائهم. وكان هذا هو السبيل الذي قضى على حظوظ تكوين أمةٍ واحدة، وأدّى إلى نشوء أمتين لا تعيش واحدتهما إلا على إنكار وجود الأخرى والصراع ضدها.
كانت الجزائر ربما البلد العربي الأول الذي نجحت فيه النخبة المحتكرة للسلطة نتيجة تخليد حكم الحزب الواحد، سواءً جاء بعد انقلاب عسكري، أو تتويجا لقيادة حركة تحرّر وطني، كما هو الحال بالنسبة لحزب جبهة التحرير الجزائرية، في أن تضع، كما يحصل اليوم في أكثر من بلد عربي، الشعب أمام خيار لا مهرب منه، بين الإذعان لحكم الأمر الواقع، العسكري والسياسي، وحكم الإسلاميين المتشددين. وأن تقطع بذلك الطريق على أي تغيير سياسي، أو حتى على إصلاح محدود لنظام ممارسة السلطة واحتكار الثروة والامتيازات، وكلفت المجتمع ثلاثين عاما من الدوران في الفراغ، من دون أي تقدّم يذكر في أيٍّ من مجالات النشاط الاجتماعي، الثقافي أو العلمي أو الاقتصادي أو السياسي. بالعكس، لم تكف الأزمة المجتمعية عن التفاقم في مختلف الميادين، غطى عليه توزيع فتات الريع النفطي في العقدين التاليين، والسعي إلى تضميد الجراح والخوف من عودة القمع والإرهاب. وأذكر أنني فقدت كل صداقاتي مع المثقفين الجزائريين الذين كنت قد تعرّفت على أغلبهم خلال إقامتي في الجزائر، وتدريسي في جامعتها، لأنني نصحتهم بعدم الاستسلام لهذا الخيار اليائس، والسعي إلى الاحتفاظ بأملٍ، ولو بسيطٍ، للحل السياسي، والخروج من أزمة التسعينيات، من دون سفك مزيدٍ من
الدماء، وعدم المراهنة على انتصار رهان الجيش والسلاح.
وكنت أعتقد ولا أزال بأن الجمهور الشعبي الواسع الذي صوّت للجبهة الإسلامية في ذلك الوقت لم يكن إسلاميا، ولا حاملا بالضرورة لمشروع إسلامي، وأن سيره وراء قادةٍ إسلاميين محدودي القدرات الخطابية والسياسية، كان نتيجة اليأس من التغيير على أيدي السياسيين والمثقفين المتنورين، وأن الاصطفاف وراء مشروع القمع العسكري العاري لن يساعد على تقدّم الحياة السياسية في الجزائر، ولا على إنقاذ شيء منها، وإنما سيدين الجزائر بالموت السياسي لحقبة طويلة مقبلة، فلا يمكن لنخبةٍ أن تحكم ضد شعبها من دون أن تقضي على أي فرصةٍ
لديها لتنمية البلاد، ولن يمنعها بعد ذلك شيءٌ من أن تنطوي على مصالحها ومنافعها ومكاسبها الخاصة، وأن تجير الدولة ومواردها لحسابها، وتتجاهل الشعب تماما. وهذا ما حصل بالفعل، في بلدٍ يعجّ بالموارد البشرية والمادية، وكان من المؤمل أن يقدّم بعد تجربته التحرّرية الفذة تجربةً لا تقل تميزا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما بشرت بذلك إرادة التقدّم التي أظهرتها النخبة الوطنية الوليدة في عهد الاستقلال الأول، بعد تكنيس السلطة الاستعمارية.
ليس الرئيس بوتفليقة الذي جسّد هذا الموات السياسي والثقافي الجزائري خلال العقدين الماضيين، وإنما التمسّك به، على الرغم من مرضه الواضح، وعجزه الكامل عن قيادة الدولة والبلاد، حتى صار إعفاؤه من المسؤولية، وهذا حقّه، خطرا يهدّد النظام القائم، بمقدار ما يؤدي إلى فتح باب تداول السلطة في أبسط أشكاله، أي استبدال شخصٍ بشخصٍ في منصب المسؤولية، ويعكس الجمود والتحجر والموت الحقيقي لهذا النظام، من حيث هو نظام سياسي. تسعى الأوليغارشية السائدة في الجزائر، من عسكريين ومدنيين، من خلال الاستمرار بالتمسّك بولاية خامسة للرئيس بوتفليقة إلى تأجيل مواجهة المسألة التي هربت من مواجهتها في عام 1991، ولا تزال، وهي مسألة اعترافها بسيادة الشعب الجزائري، وحقه في المشاركة في تقرير مصيره بنفسه، من دون وصايةٍ ولا احتيال، وهي بعد أن استدعت بوتفليقة من منفاه ليشرعن تمديدها لنفسها في الحكم، وإعادة تأهيل نظامها المؤجج للاحتجاجات، تحوّله إلى
ضحيةٍ باستخدامه، حتى آخر نفسٍ في جسده، للتغطية على فشلها المضاعف: في إرساء قواعد النهضة السياسية والاقتصادية التي تنتظرها الجزائر وشبابها الذي يعاني من البطالة وانعدام الأمل، ويستحقها شعبها الشجاع والمكافح، منذ عقود، وعجزها حتى عن التفاهم في ما بينها على بديلٍ يسمح بإعفاء الرئيس الذي لم يعد رئيسا، من منصبه حاجبا للشمس والحرية والكرامة عن شعبه، واحترام مرضه وحقه في الراحة والسلام.
التقيت عبد العزيز بوتفليقة أكثر من مرة في زياراتي للخليج، ومشاركتي في بعض الندوات التي كانت تقام فيه، وأتيح لي أن أناقشه في قضايا كثيرة عربية وجزائرية. لم يعطني الانطباع في أي مرة بأنه كان الرجل المهووس بالسلطة، أو المتمسّك بها. بالعكس كان بالأحرى كثير التواضع والبساطة، على الرغم من تاريخه النضالي الطويل، وهو يستحق أفضل من هذا المصير الذي تعده به طبقةٌ فقدت، تحت تأثير تماهيها مع السلطة ومنافعها، أي قدرةٍ على التفكير السياسي.
وليس لدي شك في أن الجزائر، التي افتتحت فيها نخبها الحاكمة حقبة استخدام الحرب الأهلية لقطع الطريق على التغيير السياسي سوف تكون الأقدر على إغلاقها.
وتشكيل طبقة أوليغارشية عسكرية ومدنية، تتقاسم المنافع والامتيازات على حساب شعبٍ يزداد وضعه سوءا وبؤسا يوما بعد يوم. وعلى الأغلب، بعد مرور أكثر من جيلين على هذه الحرب، بدأت المناعة التي أنتجها القمع الدموي والقتل المنظم للمدنيين إزاء التظاهر والاحتجاج، تفقد
يعني تغيير قواعد الحكم التي قامت على إلغاء تداول السلطة، وتكريس سلطة نخبة واحدة وثابتة، تتحكّم بالقرار العام، وهذا هو الجانب السياسي من الموضوع، لكن أيضا تغيير نمط توزيع الثروة الذي قاد في المرحلة السابقة، في ظل تغييب الشعب وإلغاء السياسة، إلى تكوين طبقةٍ اجتماعيةٍ متميزةٍ، طفيليةٍ غالبا، تعيش على الامتيازات المكرّسة والمكاسب غير المشروعة وعلى الفساد، ولا تعنيها من قريب أو بعيد رعاية شؤون محكوميها أو التفكير في تحسين شروط معيشتهم ومستقبل أبنائهم. وكان هذا هو السبيل الذي قضى على حظوظ تكوين أمةٍ واحدة، وأدّى إلى نشوء أمتين لا تعيش واحدتهما إلا على إنكار وجود الأخرى والصراع ضدها.
كانت الجزائر ربما البلد العربي الأول الذي نجحت فيه النخبة المحتكرة للسلطة نتيجة تخليد حكم الحزب الواحد، سواءً جاء بعد انقلاب عسكري، أو تتويجا لقيادة حركة تحرّر وطني، كما هو الحال بالنسبة لحزب جبهة التحرير الجزائرية، في أن تضع، كما يحصل اليوم في أكثر من بلد عربي، الشعب أمام خيار لا مهرب منه، بين الإذعان لحكم الأمر الواقع، العسكري والسياسي، وحكم الإسلاميين المتشددين. وأن تقطع بذلك الطريق على أي تغيير سياسي، أو حتى على إصلاح محدود لنظام ممارسة السلطة واحتكار الثروة والامتيازات، وكلفت المجتمع ثلاثين عاما من الدوران في الفراغ، من دون أي تقدّم يذكر في أيٍّ من مجالات النشاط الاجتماعي، الثقافي أو العلمي أو الاقتصادي أو السياسي. بالعكس، لم تكف الأزمة المجتمعية عن التفاقم في مختلف الميادين، غطى عليه توزيع فتات الريع النفطي في العقدين التاليين، والسعي إلى تضميد الجراح والخوف من عودة القمع والإرهاب. وأذكر أنني فقدت كل صداقاتي مع المثقفين الجزائريين الذين كنت قد تعرّفت على أغلبهم خلال إقامتي في الجزائر، وتدريسي في جامعتها، لأنني نصحتهم بعدم الاستسلام لهذا الخيار اليائس، والسعي إلى الاحتفاظ بأملٍ، ولو بسيطٍ، للحل السياسي، والخروج من أزمة التسعينيات، من دون سفك مزيدٍ من
وكنت أعتقد ولا أزال بأن الجمهور الشعبي الواسع الذي صوّت للجبهة الإسلامية في ذلك الوقت لم يكن إسلاميا، ولا حاملا بالضرورة لمشروع إسلامي، وأن سيره وراء قادةٍ إسلاميين محدودي القدرات الخطابية والسياسية، كان نتيجة اليأس من التغيير على أيدي السياسيين والمثقفين المتنورين، وأن الاصطفاف وراء مشروع القمع العسكري العاري لن يساعد على تقدّم الحياة السياسية في الجزائر، ولا على إنقاذ شيء منها، وإنما سيدين الجزائر بالموت السياسي لحقبة طويلة مقبلة، فلا يمكن لنخبةٍ أن تحكم ضد شعبها من دون أن تقضي على أي فرصةٍ
لديها لتنمية البلاد، ولن يمنعها بعد ذلك شيءٌ من أن تنطوي على مصالحها ومنافعها ومكاسبها الخاصة، وأن تجير الدولة ومواردها لحسابها، وتتجاهل الشعب تماما. وهذا ما حصل بالفعل، في بلدٍ يعجّ بالموارد البشرية والمادية، وكان من المؤمل أن يقدّم بعد تجربته التحرّرية الفذة تجربةً لا تقل تميزا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما بشرت بذلك إرادة التقدّم التي أظهرتها النخبة الوطنية الوليدة في عهد الاستقلال الأول، بعد تكنيس السلطة الاستعمارية.
ليس الرئيس بوتفليقة الذي جسّد هذا الموات السياسي والثقافي الجزائري خلال العقدين الماضيين، وإنما التمسّك به، على الرغم من مرضه الواضح، وعجزه الكامل عن قيادة الدولة والبلاد، حتى صار إعفاؤه من المسؤولية، وهذا حقّه، خطرا يهدّد النظام القائم، بمقدار ما يؤدي إلى فتح باب تداول السلطة في أبسط أشكاله، أي استبدال شخصٍ بشخصٍ في منصب المسؤولية، ويعكس الجمود والتحجر والموت الحقيقي لهذا النظام، من حيث هو نظام سياسي. تسعى الأوليغارشية السائدة في الجزائر، من عسكريين ومدنيين، من خلال الاستمرار بالتمسّك بولاية خامسة للرئيس بوتفليقة إلى تأجيل مواجهة المسألة التي هربت من مواجهتها في عام 1991، ولا تزال، وهي مسألة اعترافها بسيادة الشعب الجزائري، وحقه في المشاركة في تقرير مصيره بنفسه، من دون وصايةٍ ولا احتيال، وهي بعد أن استدعت بوتفليقة من منفاه ليشرعن تمديدها لنفسها في الحكم، وإعادة تأهيل نظامها المؤجج للاحتجاجات، تحوّله إلى
التقيت عبد العزيز بوتفليقة أكثر من مرة في زياراتي للخليج، ومشاركتي في بعض الندوات التي كانت تقام فيه، وأتيح لي أن أناقشه في قضايا كثيرة عربية وجزائرية. لم يعطني الانطباع في أي مرة بأنه كان الرجل المهووس بالسلطة، أو المتمسّك بها. بالعكس كان بالأحرى كثير التواضع والبساطة، على الرغم من تاريخه النضالي الطويل، وهو يستحق أفضل من هذا المصير الذي تعده به طبقةٌ فقدت، تحت تأثير تماهيها مع السلطة ومنافعها، أي قدرةٍ على التفكير السياسي.
وليس لدي شك في أن الجزائر، التي افتتحت فيها نخبها الحاكمة حقبة استخدام الحرب الأهلية لقطع الطريق على التغيير السياسي سوف تكون الأقدر على إغلاقها.