عندما كان جمهور قاعة "الموقار"، في الجزائر العاصمة، يتابع فيلمًا وثائقيًّا حول مخاطر استخراج الغاز الصخري وآثاره الكارثيّة على الإنسان والبيئة، بمناسبة "أيّام الفيلم الملتزم"؛ كانت الحكومة قد حسمت الأمر وقرّرت المضيّ قدمًا في قرارها الذي اتّخذته قبل أشهر، باللجوء إلى تلك الطاقة الجديدة التي يعتبرها الخبراء بديلاً مستقبليًّا للنفط والغاز التقليدي، رغم الانتقادات التي جوبه بها القرار. هكذا، شرعت شركة "سوناطراك" في عمليات الحفر في مدينة عين صالح بتمنراست جنوب البلاد. لكن مفاجأةً طلعت من أوّل بئر.
وسط الجدل الذي أثاره مشروع الحكومة، بين مؤيّد يستميت في الدفاع عنه، باعتباره يخلق مصدرًا جديدًا للطّاقة من شأنه تعزيز الاقتصاد الوطني، ومعارض يحذّر من آثاره الخطيرة على البيئة؛ عرض المخرج الفرنسي، ميشال تيدولدي، قصّة بلاده مع الغاز الصخري، ونضال الفرنسيين من أجل ثني حكومتهم عن استخراجه.
ابحث عن باريس
انحاز تيدولدي في فيلمه الوثائقي "الغاز الصخري: هجوم جماعات الضغط"، إلى المعسكر المعارض لاستخراج ذلك النوع من الغاز، موجّهًا انتقاداته إلى رجال المال والأعمال الذين قدّمهم في صورة لوبيات جشعة لا همّ لها سوى تحقيق الثروة، ولو على حساب البيئة، متجاهلةً وجهات النظر المعارضة، وضاربةً بالرأي العام عرض الحائط.
لم تكن الحكومة الجزائرية، بأيّة حال، لتستمع إلى رأي مخرج سينمائي، رغم الحقائق المريعة التي أوردها في فيلمه. قبل ذلك بنحو عام، حذّر جون لوك ميلونشون، زعيم حزب "جبهة اليسار" الفرنسي، الجزائريين من السماح لفرنسا باستغلال غازهم الصخري، مؤكّدًا أن الشركات الفرنسية لجأت إلى الجزائر بعد أن أسقط البرلمان الفرنسي مشروعًا باستغلال هذا الغاز داخل الأراضي الفرنسية. كشف ميلونشون، خلال محاضرة في العاصمة الجزائرية، عن توقيع اتّفاقيات بين الجانبين تقضي بإجراء تجارب وبحوث للتنقيب عن تلك الثروة، ثمّ أسدى إلى مستضيفيه هذه النصيحة: "افعلوا مثلنا.. لا تتركوا الشركات الفرنسية، التي تصدّينا لها ومنعناها من استخراج الغاز الصخري في فرنسا، تستخرجه في الجزائر".
لكن، حتّى وإن بدا الأمر بهذه الصورة انتصارًا على لوبيّات المال والأعمال في فرنسا، فإن قراءة أخرى يمكن أن يحتملها الموضوع؛ وهي أن باريس ما كانت لترضخ لأنصار البيئة، ما دامت لا تعوزها القدرة على توجيه الرأي العام لصالحها، لو كانت تملك احتياطيًّا مهمًّا من الغاز الصخري يُمكن أن يساهم بشكل مؤثّر في اقتصاديّاتها. وهو ما يعني، من جهة أخرى، أنها فضّلت توجيه أنظارها إلى مستعمرتها السابقة التي تملك ثالث احتياطي عالمي من هذا الغاز غير المستغلّ.
أيًّا كان، فإن رأي زعيم اليسار في فرنسا والمرشّح السابق لرئاسياتها الماضية لن يكون مهمًّا، هو الآخر، بالنسبة للحكومة الجزائرية التي أفاقت، بعد سنوات من البحبوحة المالية، على صدمة خلّفها انهيار أسعار الذهب الأسود في الأسواق العالمية. سارعت حكومة عبد المالك سلّال إلى الإعلان عن سياسة التقشّف وترشيد النفقات العمومية، بما أنّها صرفت خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة فقط (فترة حكم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة) 800 مليار دولار، دون أن تنجح في خلق مصادر أخرى للثروة خارج قطاع المحروقات الذي تشكّل عائداته نحو 98% من دخل البلاد.
تؤكّد السلطة أنها أنفقت تلك المبالغ، التي كانت كافية لإنشاء بلد بأكمله، في التنمية. وتقول المعارضة إنّها أُنفقت في شراء السلم الاجتماعي، بدليل أنها لم تنعكس إيجابًا على حياة المواطنين ولم تكسر تبعية الاقتصاد للمحروقات. ومرّة أخرى، تؤكّد السلطة أنّها تفضّل الخيارات السهلة دائمًا: لن تلجأ إلى الطاقة الشمسية ولا إلى مناجم الذهب (احتياطي الجزائر يبلغ 100 ألف طن) ولا إلى الاستثمار الفلاحي أو السياحي في الجنوب، ما دام ثمّة خيار أسهل.
سيكون الغاز الصخري بمثابة الحلّ السحريّ. تشير الأرقام إلى أن الجزائر تنام على ثروة لم تُستغلّ بعد؛ حيث يؤكّد مسؤولو قطاع الطاقة أنها تحتلّ المرتبة الثالثة عالميًّا، بعد الصين والأرجنتين، باحتياطيّ يقدّر بقرابة عشرين مليار متر مكعّب يتواجد في أحواض بالصحراء، جنوب البلاد. "باب رزق" جديد فُتح إذن، في وقت يسير فيه النفط والغاز إلى النضوب بسبب الاستغلال المفرط، إذ يتوقّع الخبراء أن يتحوّل البلد من مصدّر للنفط إلى مستورد له بحلول عام 2030، بينما سيكون الإنتاج الوطني من الغاز "التقليدي" في آفاق تلك السنة، قادرًا، فقط، على تغطية السوق المحليّة.
بما أنّنا لسنا في باريس، لم يكن على الحكومة أن تبذل كبير جهد لتمرير هذا المشروع الحسّاس على برلمان لم يُعرف عن نوّابه غير رفع الأيدي والمطالبة بالمزايا الشخصيّة كزيادة أجورهم وإعطائهم جوازات سفر ديبلوماسية. هكذا سيتوجّه وفد يقوده وزير الطّاقة، يوسف يوسفي، رأسًا إلى مدينة عين صالح في أقصى الجنوب، للإشراف على تدشين أوّل بئر للغاز الصخري في البلاد. سيكون ذلك بمثابة الإعلان الرسمي عن بدء مرحلة استغلال هذه الطاقة التي تصرّ الحكومة على أنّها لا تشكل خطرًا على البيئة الجزائرية، وعلى أن التحذيرات بهذا الشأن "مبالغٌ فيها".
لكن هل سيُفرض على الجزائريين ما رفضه الأميركيون والروس والفرنسيون والصينيون؟
بئر الغضب
بعد أيّام، سيضطرّ الوزير للعودة إلى المدينة لتهدئة سكّانها هذه المرّة. فأشغال الحفر لم تُخرِج غازًا صخريًّا فحسب، بل أيضًا شعورًا بالإقصاء والتهميش وغضبًا كتمه سكّان الجنوب طويلاً. بدأ الأمر باحتجاجات نظّمها طلبة جامعيّون في عين صالح ثمّ لم تلبث أن أخذت في التوسّع، لتستقطب آلاف المواطنين باختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم وفئاتهم العمرية. ورغم تأكيد الوزير بأن الأمر مجرّد عملية تجريبية، وبأن الشروع الفعلي في استغلال الغاز لن يتمّ إلاّ بعد التحقّق من سلامة نتائجها، توسّعت رقعة الاحتجاجات إلى مدن وولايات جنوبية أخرى هي تمنراست وأدرار وتيميمون وورقلة؛ حيث رفع المحتجّون شعارًا واحدًا: " كلّنا عين صالح.. كلّنا ضد الغاز الصخري".
كالعادة؛ فضّلت السلطة الخيار الأمني بالموازاة مع تجنيد وسائل إعلامها، عموميّة وخاصّة، لإقناع سكّان الجنوب بأنّ مخاوفهم غير مبرّرة وبأن المشروع سيعود عليهم بالخير العميم. غير أن مواجهة الاحتجاجات بالاعتقالات لم تزد الأمر إلاّ سوءًا، أمّا الخطاب الإعلامي فيبدو أنه لم يُقنع أحدًا. أخذت الحركة الاحتجاجية تتصاعد، خاصّة أنها قوبلت بلامبالاة من الشركة التي أعلنت أنها ستستثمر 70 مليار دولار في المشروع. شنّ آلاف المحتجّين اعتصامات مفتوحة، مطالبين الحكومة برفع ما يعتبرونه غبنًا وتهميشًا عن الجنوب، وبالاستثمار في قطاعات أخرى كالفلاحة والسياحة، وبالتحقيق في ملابسات التعاقد مع شركة فرنسية عُهدت إليها أشغال التنقيب. رفع المتظاهرون شعارات تندّد بالمشروع وتطالب بإلغائه: "يا للعار يا للعار.. باعوا الصحرا بالدولار".. "الشعب يريد وقف الغاز الصخري".. "الغاز الصخري: إبادة جماعية".
أمام هذا الإصرار، وجدت الحكومة نفسها مضطرّة للدخول في حوار مع المحتجّين الذين لقوا تعاطفًا شعبيًّا واسعًا وانضمّت إليهم منظّمات مدنية وحقوقية وبيئيّة، قبل أن يشكّلوا ما أسموها "المبادرة الشعبية لإسقاط الغاز الصخري"، ويؤكّدوا أنّهم لن يتراجعوا عن اعتصامهم إلاّ بإلغاء نهائي للمشروع، الذي يؤكّد الخبراء أنه سيؤثّر في الطبقات الجيولوجية للأرض؛ مما يهدّد بتحريك الزلازل والبراكين الخامدة، وسيلوّث المياه الجوفية وستترتّب عن ذلك نتائج وخيمة على كلّ الكائنات الحيّة في المنطقة، التي عانت من تجارب نووية قام بها الاستعمار الفرنسي في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، وما زالت آثارها المدمّرة قائمة إلى اليوم.
ولم يقتصر الاحتجاج على الجنوب، إذ نظّم نشطاء وقفة احتجاجية أمام البرلمان الجزائري في العاصمة تنديدًا بالمشروع، سرعان ما تدخّل الأمن لتفريقهم واعتقال عدد منهم، كما أعلنت أحزاب المعارضة دعمها لمطالب المحتجّين واستنكرت تمرير مشروع بهذه الخطورة دون استشارة الشعب، معتبرة أن الهدف منه هو "تمديد عمر النظام الذي يوشك على الزوال بسبب انهيار أسعار النفط"، بينما رأت أحزاب الموالاة، كالعادة، في الاحتجاجات حراكًا غير بريء تحرّكه أطرافٌ أجنبية.
ولا يستبعد متابعون أن يكون للحراك علاقة بصراع داخل أجنحة السلطة ذاتها من أجل التحكّم في "ريع" النفط. ويذكّر هؤلاء بقانون "تقنين المحروقات" لسنة 2005، والذي أعدّه وزير الطاقة السابق، شكيب خليل (يحمل الجنسيّة الأميركية) وتمّ إقراره في البرلمان، قبل أن يتمّ التراجع عنه بسبب ضغط مارسه جناح داخل السلطة.. أدّى إلى إقناع الرئيس بوتفليقة بالتخلّي عنه، خاّصة بعد لقائه بالرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، الذي اعتبر أن القانون سيدّمر منظمة "أوبك" وأعضاءها دولة تلو الأخرى.
وللقصّة بقيّة..
*الجزائر