الجامعة تصل إلى الحكم في الجزائر وتونس

08 يناير 2020
+ الخط -
جاءت اللّحظة الحاسمة للإعلان، في كلّ من الجزائر وتونس، عن التشكيلة الوزارية لكل من لبلدين، حاملة مفارقاتٍ كثيرةً يمكن قراءتها سياسيا، بالنظر إلى ما تحتويه من أسماء قد تدلّ على مؤشراتٍ ما، كما يمكن قراءتها، من جانب التحول الذي يمكن تخيّل (نعم تخيّل) أنه قد حدث، ويمكن المراهنة عليه، مستقبلا، لصنع الغد المنشود المأمول. ولعلّ أهم تغيير طرأ على سدّة الحكم، في البلدين، وصول أستاذين جامعيين إلى الرّئاسة في تونس وإلى الوزارة الأولى في الجزائر، فهل من رمزية تصاحب ذلك للقول إن الجامعة، ربما، أصبحت، لأوّل مرّة، في مكانها الذي يجب أن تكون فيه، أي قاطرة المجتمع، باعتبارها مصنعا لإنتاج النّخب وبناء الكفاءة، وهما مناط الإصلاح والتطور القادمين؟ 
يُمكن الارتكاز في القراءة الأولى لتلك الرّمزية، بشأن تزامن ذلك الصّعود، لطرح سؤال مهمّ، وهو ما إذا كان حدوث ذلك جاء في إطار صيرورة تغييرية، أم بمجرّد المصادفة، حيث ترشّح قيس سعيد في تونس، وصعد إلى الرّئاسة، على الرغم من توفّر ظروف طاردة محلية وإقليمية، بل ودولية، أيضا، في حين أنّ تسمية الأستاذ الجامعي، عبد العزيز جرّاد، في الجزائر، لشغل منصب رئاسة الوزراء، لم يأت من خارج دائرة متقلّدي الوظائف السّامية داخل النظام، بل يمكن اعتبار هذه التّسمية مجاريةً للتعيينات التي اعتادت السّلطة على القيام بها، بحيث لا تُربك المشهد بشخصياتٍ من خارج تلك الدّائرة الضيّقة.
يشير ثاني الأفكار لقراءة تلك الرّمزية إلى العلاقة بين الجامعة، صانعة النّخبة والكفاءة، والسياسة في البلدين، باعتبار أنّ تلك العلاقة لم تكن موجودة، أو لنقل كانت غائبة مغيّبة، ألبتّة، بل يمكن 
القول إنّ الكفاءة كانت العنصر الذي لم تكن السّلطة تولي له بالا لتعارضه، وفق رؤيتها، مع مبدأ الولاء، كما أنّ الكفاءة لم تكن مطلوبةً لشغل منصب عالٍ، في قلب النظام أو في هامشه. ومردّ ذلك، كلّه، إلى الطّلاق البائن، بينونةً كبرى، بين السياسة والجامعة، ذلك أنّ الرّشادة والنّجاعة، في بلورة السّياسة العامّة وصناعتها، في كلّ الميادين، لم تكن الشّغل الشّاغل للحكومات، بل الحكم وكيفية البقاء فيه والإمساك به أطول فترة ممكنة، هو هم السّلطة، أوّلا وأخيرا، ولتعارض ذلك، حتما، مع الاعتماد على إيجاد ثمّ تطوير الطّبقة الوسطى التي تولد في الجامعة، وتعتمد على الكفاءة معيارا وحيدا لتسيير تلك السّياسة العامّة.
تشير الفكرة الثالثة إلى جزء حالم لتلك الرمزية، وهي المتّصلة بتخّيل أنّ ذلك إرادة حقيقية لصنع التغيير، وأنّ البلدين، بسلوكهما ذلك المسلك لإعادة الاعتبار للجامعة، بمثابة قاطرة، في المنطقة، لإحلال الرشادة والنجاعة، في بلورة السياسة العامة وصنعها، محلّ التسيير العشوائي لانتشال المنطقة من براثن التخلّف، بل اعتبار ذلك كلّه مسحة أمل كبرى، تؤشّر إلى ميلاد جديد للمنطقة، جاهدة للسير بها إلى تجسيد مشروع القيادة، من جديد، وصنع انبعاث وعروج حضاريين، يتمنّى كل مغاربي أن تحدث، وأن يراها متجسّدة في التّعيينات، مستقلا، لكل منصب يحتاج ذلك يستلزمه.
تركّز المقالة على هذه الرّمزية الثالثة، لاعتبار أنّ ما حدث كان مقصودا، ذلك أنّ المسؤولية، الآن، منوطةٌ، في البلدين، بشخصياتٍ عرفت الجامعة للانطلاق نحو القول، ولو من باب الخيال، إنّ تلك صيرورة ستضع السياسة العامّة على المحكّ، لأنّها ستكون، لأوّل مرة، بين أيدي من هم الأعرف الأكفأ لتسييرها وفق المبادئ المطلوبة، قصد الوصول إلى تحقيق الهدف المنشود، سياسيا، تجسيد الجمهورية الجديدة، واقتصاديا للخروج من دائرة التخلف، والسّير بالبلدين إلى دائرة إنتاج القيمة المضافة الحقيقية بالخيرات التي تزخر بها المنطقة، وفي مقدمتها شبابها.
وقد جاءت لحظة الإعلان عن التّشكيلتين الوزاريتين متزامنة، أيضا، بفارق ساعات، وكأنّما هناك تعمّد من البلدين لصنع مشهد سياسي متقارب من حيث الشّكل والمضمون، لأنّ قائمة تونس الوزارية، بفعل التجاذبات السياسية التي تلت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لم تكن لتنتج إلّا حكومة تكنوقراطية، وهو الحال نفسه في الجزائر، لأنّ الرئيس الجديد المنتخب، عبد المجيد تبّون، لم يكن ليعتمد على المعطيات السياسية، دستوريا، لتسمية الحكومة، باعتبار أن البرلمان هو من ورشاته التغييرية لإحداث القطيعة مع نظام الرّئيس السّابق، عبد العزيز بوتفليقة.
ويمكن ملاحظة أن القائمة التي أعلنها النّاطق الرسمي باسم الرّئاسة في الجزائر تحمل أسماء عديد الأساتذة الجامعيين، ما يعني أنّ خطوات إنتاج تلك الصيرورة التي قد تعيد إلى النخبة مكانتها تكون قد بدأت في البروز، وكانت أولى خطواتها إقناع هؤلاء الوزراء بأن اللحظة السياسية الرّاهنة تستلزم منهم القبول بإظهار أنّ ثمّة جسورا بين الجامعــة والعالم الاقتصادي، يجب الانطلاق في ترسيخها، في انتظار أن تُكلّل تلك المزاوجة بين النخبة الجامعية والاستيزار بالنجاح، باعتبار أن السياسة العامة تحتاج إلى التخصص، الكفاءة والتفكير المنطقي المسترشد بالنّجاعة، على الدوام.
يأتي الحديث، هنا، عن عامل حيوي، قد يحوّل الظّرفي إلى هيكلي، أي تحويل اللّحظة السياسية 
التي قد تتسم بالمراهنة على مطالب مؤقّتة، يمكن الفكاك منها بعد زوال الدّاعي إلى اتخاذ قراراتٍ بشأنها، إلى صيرورة دائمة، تكتسب صفة السلوك السياسي الذي يُحاسب على أساسه من يعتلي منصب رئاسة الوزراء، أو الرئاسة، لإحداث ما يعرف بالتّداول على السّلطة وفق دورة النجاح/الفشل، ليس إلاّ بعيدا عن اللعبة السياسية التي اعتدنا على رؤيتها تُفشل كل مشاريع تحويل العادي، في فضاءاتٍ أخرى، إلى مستحيلٍ عندنا، إن لم يكن ضربا من الجنون، المرادف للثورة المضادة أو مشاريع تهديم الدول.
قد تكون تلك القراءة في رمزيات الإعلان عن تشكيلة الوزارة في تونس والجزائر ضربا من الخيال السياسي. لكن، وهنا نتحدّث عن الحقيقة السياسية، يمكن التّعويل عليها، إذا رافق ذلك وعيٌ شعبيٌّ بالتحديات، والمراهنة على الكفاءة لرفعها، مع إتاحة الوقت الكافي لها، لتتجسّد على أرض الواقع ممارسةً ونتائج، لنقول إنّ هناك محاولة لبناء رصيد من الاعتقاد/ الإدراك في أنّ ثمّة إرادة سياسية، لا نجزم أنها صادقة وهيكلية، ولا يمكن وصفها بالصيرورة، أي المسلكية الإستراتيجية، على الأقل قبل أن تبدو أنها كذلك بالممارسة المتّسمة بالدوام والرسوخ، للإقدام على ذلك واحتسابه خطوة، في طريق الألف الخطوة، لإعادة الثقة وصياغة العقد الاجتماعي الجديد في عهد الجمهورية الجديدة، في كلا البلدين.
لطالما راودتنا تلك الخيالات والأحلام، وانتظرناها عقودا، إلى أن جاء اليوم الذي أصبحنا نتحدث عنه، الذي نؤشر فيه إلى ميلاد محاولة جادّة، نعم جادّة، حتى لا نكون عدميين، على الدوام، لبناء جسور بين الفعل السياسي والكفاءة، بعيدا عن الوساطة، الفساد والتسيير العشوائي الذي تولّد عنه ما تولّد من تخلف ودمار طاولا كل مناحي الحياة.
هل يتحوّل الحلم إلى حقيقة؟ على الدّوام، كانت الخطوات الأولى، في فضاءات المستحيل، تحمل مسمّى الخيال أو الحلم. ولكن ألم يكن ذلك منطلق كل فعل ثوري يبدأ بفكرة امتعاض؟