الثورة الهادئة

16 ديسمبر 2015
+ الخط -
ما عاد الناس يغرفون الأخبار والخطب والصور والثقافة والدين من القنوات التقليدية للإعلام الرسمي، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية. ما عادت الجريدة والإذاعة والتلفزة والوكالة والمجلة والمدرسة والمسجد والكنيسة الوسائل والأماكن الوحيدة لتأطير المواطن. صار للجمهور العريض في العالم العربي جريدته "فيسبوك" و"تويتر"، وتلفزته "يوتيوب"، وآلاف الجدران الافتراضية يخط فوقها فرحه وغضبه وآراءه. لم يعد أحد باستطاعته أن يفرض على جمهور "فيسبوك" و"تويتر" وعشرات مواقع التواصل الاجتماعي خطاباً واحداً أو رأياً واحداً أو صورة واحدة، أو ترتيباً خاصاً بالسلطة للأخبار والموضوعات والقضايا التي تهم الجمهور. الجميع يستهلك وينتج، يتأثر ويؤثر، يستقبل ويرسل، يؤيد ويعارض، يدافع عن شخص أو قضية أو قرار، أو يهاجم قانوناً أو سياسة أو أغنية أو مشهداً في فيلم.
أطاحت هذه الثورة الرقمية الهادئة التي لم تستثن أي بلد أو أمة أو حضارة أو قارّة نظريات كثيرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية الراهنة، وأولها نظرية النخب والجماهير، الخاصة والعامة. تأثر هذا التقسيم التقليدي للبنية السياسية والثقافية كثيراً ببروز منصات التواصل الاجتماعي التي تعطي لكل مواطن عربي مكبر صوت وأداة للتعبير عن نفسه، وعن همومه، وعن أحوال بلده أو أسرته أو طبقته أو حزبه أو نقابته. هذا لا يعني أن الجميع أصبحوا على قدم المساواة في القدرة على التأثير في الرأي العام. لا أبداً، سيظل التأثير متفاوتاً بتفاوت الإمكانات العقلية والفكرية والمهارات اللغوية والتواصلية والإمكانات التقنية والمادية خلف استراتيجيات إنتاج المضمون والمعنى على الشبكة العالمية، لكن ما تغير هو قانون الولوج إلى عالم التأثير، بحيث صار للمستضعفين صوت، وللأفراد رأي، وللمجموعات، حتى المهمشة، إمكانية أن تصير قوة مؤثرة في الرأي العام، وفي مخرجات السياسات العمومية، وفي التأثير على الذوق الفني، وعلى مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهو ما لم يكن متاحاً للجماهير التي كانت تعبر عن رأيها، بين فترة وأخرى، بالتصفيق للزعيم وبالاصطفاف خلف الحزب، أو بواسطة ثورة أو انتفاضة شعبية، عندما يصل الاحتقان السياسي والاجتماعي إلى ذروته القصوى.
لم يعد التأثير في القرارات والسياسات محصوراً في أجهزة صغيرة، تمتلك وحدها أدوات التوجيه القومي أو الدعاية السياسية أو الوعظ والإرشاد الديني أو إدارة الشؤون المعنوية في الجيش والمخابرات. صار الولوج إلى (لاغورا)، أي إلى ساحة الفعل العمومي مفتوحاً ديمقراطياً لكل صاحب رأي أو حجة أو مذهب أو فكر. هذا لا يعني أن هذا الولوج لا يتم بدون مخاطر، وأكثرها الآن دخول ظاهرة داعش وخطابها الوحشي على خط إنتاج التطرف.
أفقدت ثورة تكنولوجيا الاتصال الدولة العربية السيادة على عقول الناس وأذواقهم، وعلى قائمة الأخبار التي يطلعون أو لا يطلعون عليها. تقود هذه الملاحظة إلى استنتاج رئيسي، هو أن الدولة عندما تفقد امتياز احتكار سلعة استراتيجية تقبل، أولاً، بحقيقة السوق المفتوح وقوانينه الجديدة، ثم تعمل على القبول بالتعددية والتأقلم مع هذه الحقيقة، بعدها تتكيف مع الوضع الجديد، وتقبل أن تدخل سوق التأثير السياسي والفكري والثقافي والقيمي، فاعلاً من ضمن فاعلين آخرين، ثم تقبل بجعل بضاعة الدولة الرئيسية (القرار العمومي) تأخذ بالحسبان اتجاهات الرأي العام التي تتشكل باستقلالٍ عنها، وعن سلطتها، فتراعي توجهات المجتمع وميولاته العديدة ومطالبه المتناقضة. كل هذا تأخذه السلطة الشرعية والمتصالحة مع مجتمعها بالاعتبار، وهي تشرّع، وهي تدير السلطة والمال والجاه في المجتمع، فقدان السلطة السيطرة على تشكيل عقول الناس وتوجهات الرأي في المجتمع لا يعني السقوط في الفوضى أو التفريط في السيادة، بل يعني أن المجتمع شبّ عن الطوق، وأن الدولة الحديثة تعتبر نفسها أداة في خدمة المجتمع. والدولة، بهذا المعنى، لا تتصرف على أنها المنتج الوحيد للحقائق والسياسات والقرارات. من هذا العجز السلطوي، تولد قوة المشروعية، وتولد معها النواة الأولى الديمقراطية التي تعتبر من أدوات إدارة المصالح المتناقضة وتخفيف التوترات وجعل مصلحة الأغلبية فوق مصلحة الأقلية.

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.