25 يناير 2024
الثورة العراقية ترفض مصطفى الكاظمي
من يعتقد أن الثورة العراقية قد انتهت، أو فقدت تأثيرها، لمجرد تجاهل المليشيات المسلحة شروط الثوار، حين اتفقت على تسمية مصطفى الكاظمي رئيسا للحكومة القادمة، مخطئ، فقد جاء الرد سريعا من جميع ساحات التحرير. فعلى سبيل المثال، أصدر ثوار النجف بيانا قالوا فيه "إنه وبعد كل التضحيات الجسام التي قدمتها ثورة تشرين المباركة، منذ أكثر من ستة أشهر، ووفاء لدماء الشهداء، فقد قرّروا رفض هذا التكليف، لأنه جاء بإرادة خارجية، ولم يأت بإرادة وطنية عراقية، فضلا عن أنه غير مطابق للشروط التي وضعتها ساحات الاعتصام". وأعلن البيان أيضا "رفض الثوار للعملية السياسية التي تقودها الأحزاب الفاسدة جملة وتفصيلا". ليس هذا فحسب، وإنما طالب البيان الجماهير الوطنية كافة في داخل العراق وخارجه، "بالضغط بكافة الوسائل الممكنة باتجاه حل البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤقتة". وخرجت جموع من الشباب إلى الشوارع، على الرغم من حظر التجول، للتنديد بالكاظمي والأحزاب الفاسدة. أما نشطاء الثورة فقد غرّدوا على مواقع التواصل الاجتماعي التي ورد في إحداها، "كيف سيستطيع رئيس الوزراء القادم حصر السلاح بيد الدولة، وهو كلف بالمنصب بناءً على ثقة الجناح السياسي للعديد من الفصائل المسلحة"؟
أصاب بيان ثوار النجف كبد الحقيقة، فكل المعلومات المنشورة وغير المنشورة أكّدت أن تكليف مصطفى الكاظمي لم يأت جرّاء الاتفاق الذي حدث بين الكتل السياسية والمليشيات المسلحة
فحسب، وإنما أتى جرّاء صفقة تمت بين المحتل الأميركي ووصيفه الإيراني اللذيْن لم يخفيا ترحيبهما وتاييدهما هذا الرجل، وإلا بماذا نفسر هذا القبول المفاجئ لمصطفى الكاظمي، والترحيب به، وحضور مراسم تكليفه، واعتبار ذلك انتصارا مبينا، وهم أنفسهم الذين رفضوا ترشيحه لهذا المنصب قبل محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي؟ ثم أليسوا هم من وجهوا له اتهاماتٍ من العيار الثقيل، ووصفوه بأنه عميل للمخابرات الأميركية، وأنه اشترك في عملية اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس من القوات الأميركية؟ وأنه خطط لانقلاب عسكري بالاتفاق مع إحدى الرئاسات العراقية الثلاث، في إشارة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح؟ ثم هل كانت مصادفة سيئة اتفاق هؤلاء على الكاظمي، في أعقاب الزيارات التي قام بها للعراق الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، ولقائه بالكاظمي، ثم تبعه خليفة قاسم سليماني قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني؟ أما خطاب مصطفى الكاظمي، وما تضمنه من كلمات رنانة عن السيادة والاستقلال وحب الوطن، وحرص الطيف العراقي والوجوه الكريمة على تلبية مطالب المتظاهرين، وحصر السلاح بيد الدولة، ليس سوى محاولة بائسة لإبعاد تهمة التدخل الإيراني السافر والمفضوح من جهة، وذرّ الرماد في عيون الثوار، على أمل إقناعهم بالقادم الجديد من جهة أخرى، فالكاظمي الذي يشغل منصب رئيس المخابرات يعلم أكثر من غيره أن هذه "الوجوه الكريمة"، هي ذاتها التي ثار الشعب العراقي ضدّها، وقدم مئات الشهداء وآلاف الجرحى، من أجل إسقاطها، وتقديمها للمحاكم العادلة.
حين وصف العراقيون نوري المالكي وحكومته ونوابه في ساحة التحرير، قبل تسع سنوات، بأهزوجة شعبية، تقول "المالكي ونوابه.. حرامية وكذابة"، لم يجانبوا الحقيقة. مثلما لم يجانبوها حين وصفوا الحكومات اللاحقة بأهزوجة "باسم الدين باكونا الحرامية". وبالتالي، فإن الحديث عن مناقب الكاظمي واستقلاليته ووطنيته لم يعد يجدي نفعا، فقد أثبتت الوقائع والأحداث أن رئيس الحكومة، ومهما كانت مواصفاته، لن يتمكّن من تحقيق إنجاز واحد لصالح العراقيين، في ظل عملية سياسية، لحمتها المحاصصة الطائفية وأحزاب فاسدة ومليشيات مسلحة، وسُداها دستور ملغوم لا يمكن تعديله، وقضاء مسيس ومحاكم لتبرئة المجرمين. أما الذين يعيشون
أوهام التغيير على يد هؤلاء أو من يوالونهم الأميركيين والإيرانيين، ويجدون في الثورة الشعبية السلمية جهدا غير مثمر وتضحياتٍ ضائعة، فسأتركهم يعيشون مع أوهامهم، فقد أكدت الوقائع والأحداث فشل جميع المحاولات التي سعت إلى إصلاح العملية السياسية، أو تغييرها أو تعديل مسارها من داخلها. وهذا ليس أمرا غريبا على الإطلاق، فقد درجت جميع الدول المحتلة، وفي كل العصور والأزمان، على اعتماد هذه الطرق والوسائل الخبيثة، وتنصيب حكومات عميلة تؤمن للمحتل سبل الهيمنة عقودا طويلة. بل يلجا المحتل، كما حصل في العراق، إلى ربط هذه الحكومات باتفاقيات استعمارية عديدة، تجعل من البلد المحتل مستعمرةً تابعة له بامتياز. بعبارة أكثر وضوحا، ستكون حكومة الغد نسخة طبق الأصل لحكومة الأمس، إذا لم تكن أكثر سوءا.
إذن، ليس هناك من بديل سوى مواصلة الثورة الشعبية، وإسقاط العملية السياسية برمتها. ونقول ذلك من شعور وطني مجرّد، وإحساس عميق بالتفاؤل. هذا الشعور الوطني تسنده تضحيات سنين طويلة، دفع فيها هذا الشعب العظيم من أجل حريته ثمنا لم يدفعه أي شعبٍ، والمقارنات الحسابية تشهد بذلك. أما التفاؤل فتسنده كل تجارب التاريخ التي تقول إن الغزاة وحكوماتهم العميلة لا ينتصرون، وإن جرائم هؤلاء الأشرار تنقلب عليهم آجلا أو عاجلا. أو كما يقول المثل العراقي "اللي ياكله العنز يطلعه الدباغ". وانطلاقا من هذه الرؤية التي لا تحتاج جدلا كثيرا، ستنتصر هذه الثورة العظيمة وإذا تراجعتَ خطوة، فإنها تستطيع إجبار أعدائها على التراجع خطوتين أو ثلاثا. لقد أثبت الشعب العراقي العظيم، بالتضحيات الجسيمة التي قدّمها على مذبح الحرية، أنه شعبٌ حرٌّ لا ينام على ضيم، ولا يموت له ثأر، ولا يهاب الموت، وكرامته لا تهان ولا تذل، والموت دونها أرحم. وبعكسه، التفاوض مع هؤلاء الأشرار جريمة لا تغتفر، فهم الذين قادوا فرق الموت، ونهبوا المليارات، وشكلوا عصاباتٍ وحولوها الى أحزاب تشتري ضمائر الرعاع، وتواطأوا على مستقبل بلادهم ومصيرها مع طهران وواشنطن، ومزّقوا البنية الاجتماعية على أسس طائفية، لكي يتخذوا منها مطيةً لنفوذهم، ووقفوا وراء كل الأعمال الوحشية للاحتلال، وهم الذين تسببوا بقتل أكثر من مليون ضحية، وتهجير خمسة ملايين آخرين، وتجويع ثمانية ملايين. هؤلاء قتلة مفرغون من الإنسانية والوطنية تماما، ولا يمكن التفاوض معهم، أو المراهنة عليهم.
ثم التفاوض مع هؤلاء على ماذا؟ على شهداء الثورة الذين افتدوا حرية وطنهم؟ التفاوض على كل الخراب الذي ساقوه لبلدٍ لم يعتبروه أصلا وطنا لهم، إلا من أجل أن يخوّنوه ويدمروه ويعيثوا بمقدّراته فسادا؟ التفاوض على القبور التي لم تعد تسع جثثا؟ ثم ما الذي سيعطونه للثوار؟ حصة طائفية بين حصص اقتسموها قبلهم... نحن هنا أمام عراقيْن مختلفين كليا. الأول، الذي يريده الثوار، عراقا سيدا حرّا يعود مجتمعه ليبني نفسه على أسس وطنية جامعة، أحزابه وطنية، وقيادته وطنية، وكل شيء فيه عراقي الهوى والهوية. والثاني عراق العملاء، عراق مغلول اليدين، ممزّق على أسس طائفية وعرقية. ترى من هو ذلك البهلوان الذي يستطيع أن يجمع بين الاثنين أو "يُصالح" بينهما؟ ووفقا لأي فلسفة؟ وما هي الرؤية النظرية لهذه الخلطة الجهنمية؟
لا إجابة هنا عن هذه الأسئلة، ولكن لا توجد منطقة وسطى بين الوطنية والعمالة، ولا تستقيم
بينهما أية مفاوضات، طال الوقت أم قصر، فإن ثورة شعبية كالتي قام بها العراقيون لن تموت. شيء من الشعور الوطني المجرّد هو الذي يقترح هذه الثقة، وشيء من تفاؤل التاريخ أيضا، ومثلها قيم السيادة والاستقلال والحرية. إنها ليست مجرد قيم سياسية قابلة للجدل. إنها مقومات أساسية للحياة. ولانها كذلك، فإن المجتمعات تعود لتقاتل من أجلها، وحتى لو خسرت مائة معركة. الاستعمار الفرنسي للجزائر دام 132 عاما، ولكنه هو الذي هُزم في النهاية. ارتكب الأميركيون جرائم وحشية كثيرة في فيتنام، ولكنهم هزموا أيضا. الاستعمار وثقافة النهب الاستعماري لم تعد مقبولةً في عالم اليوم. وحتى ولو تمكّنت الولايات المتحدة وإيران من نهب العراق وتقاسمه كحصص، إلا انهما لن تقدرا على إقناع العراقيين بأنهم يجب أن يبقوا مستبعدين إلى الأبد. ليس السعي إلى الحرية ثقافة فقط، إنه منطق الحياة. والغزاة يهزمون، وعملاؤهم يهزمون، ليس لأنهم يواجهون مقاتلين من الطرف الآخر فقط، بل لأنهم يعملون ضد منطق الحياة. وتتم إزالتهم من الوجود بسهولة، ومن دون أن يتركوا أثرا. لهذا السبب بالذات، كل الأسماء "المهمة" التي نسمع بها اليوم محظوظ منها من يفلت بجلده من الملاحقة.
حين وصف العراقيون نوري المالكي وحكومته ونوابه في ساحة التحرير، قبل تسع سنوات، بأهزوجة شعبية، تقول "المالكي ونوابه.. حرامية وكذابة"، لم يجانبوا الحقيقة. مثلما لم يجانبوها حين وصفوا الحكومات اللاحقة بأهزوجة "باسم الدين باكونا الحرامية". وبالتالي، فإن الحديث عن مناقب الكاظمي واستقلاليته ووطنيته لم يعد يجدي نفعا، فقد أثبتت الوقائع والأحداث أن رئيس الحكومة، ومهما كانت مواصفاته، لن يتمكّن من تحقيق إنجاز واحد لصالح العراقيين، في ظل عملية سياسية، لحمتها المحاصصة الطائفية وأحزاب فاسدة ومليشيات مسلحة، وسُداها دستور ملغوم لا يمكن تعديله، وقضاء مسيس ومحاكم لتبرئة المجرمين. أما الذين يعيشون
إذن، ليس هناك من بديل سوى مواصلة الثورة الشعبية، وإسقاط العملية السياسية برمتها. ونقول ذلك من شعور وطني مجرّد، وإحساس عميق بالتفاؤل. هذا الشعور الوطني تسنده تضحيات سنين طويلة، دفع فيها هذا الشعب العظيم من أجل حريته ثمنا لم يدفعه أي شعبٍ، والمقارنات الحسابية تشهد بذلك. أما التفاؤل فتسنده كل تجارب التاريخ التي تقول إن الغزاة وحكوماتهم العميلة لا ينتصرون، وإن جرائم هؤلاء الأشرار تنقلب عليهم آجلا أو عاجلا. أو كما يقول المثل العراقي "اللي ياكله العنز يطلعه الدباغ". وانطلاقا من هذه الرؤية التي لا تحتاج جدلا كثيرا، ستنتصر هذه الثورة العظيمة وإذا تراجعتَ خطوة، فإنها تستطيع إجبار أعدائها على التراجع خطوتين أو ثلاثا. لقد أثبت الشعب العراقي العظيم، بالتضحيات الجسيمة التي قدّمها على مذبح الحرية، أنه شعبٌ حرٌّ لا ينام على ضيم، ولا يموت له ثأر، ولا يهاب الموت، وكرامته لا تهان ولا تذل، والموت دونها أرحم. وبعكسه، التفاوض مع هؤلاء الأشرار جريمة لا تغتفر، فهم الذين قادوا فرق الموت، ونهبوا المليارات، وشكلوا عصاباتٍ وحولوها الى أحزاب تشتري ضمائر الرعاع، وتواطأوا على مستقبل بلادهم ومصيرها مع طهران وواشنطن، ومزّقوا البنية الاجتماعية على أسس طائفية، لكي يتخذوا منها مطيةً لنفوذهم، ووقفوا وراء كل الأعمال الوحشية للاحتلال، وهم الذين تسببوا بقتل أكثر من مليون ضحية، وتهجير خمسة ملايين آخرين، وتجويع ثمانية ملايين. هؤلاء قتلة مفرغون من الإنسانية والوطنية تماما، ولا يمكن التفاوض معهم، أو المراهنة عليهم.
ثم التفاوض مع هؤلاء على ماذا؟ على شهداء الثورة الذين افتدوا حرية وطنهم؟ التفاوض على كل الخراب الذي ساقوه لبلدٍ لم يعتبروه أصلا وطنا لهم، إلا من أجل أن يخوّنوه ويدمروه ويعيثوا بمقدّراته فسادا؟ التفاوض على القبور التي لم تعد تسع جثثا؟ ثم ما الذي سيعطونه للثوار؟ حصة طائفية بين حصص اقتسموها قبلهم... نحن هنا أمام عراقيْن مختلفين كليا. الأول، الذي يريده الثوار، عراقا سيدا حرّا يعود مجتمعه ليبني نفسه على أسس وطنية جامعة، أحزابه وطنية، وقيادته وطنية، وكل شيء فيه عراقي الهوى والهوية. والثاني عراق العملاء، عراق مغلول اليدين، ممزّق على أسس طائفية وعرقية. ترى من هو ذلك البهلوان الذي يستطيع أن يجمع بين الاثنين أو "يُصالح" بينهما؟ ووفقا لأي فلسفة؟ وما هي الرؤية النظرية لهذه الخلطة الجهنمية؟
لا إجابة هنا عن هذه الأسئلة، ولكن لا توجد منطقة وسطى بين الوطنية والعمالة، ولا تستقيم
مقالات أخرى
26 نوفمبر 2023
15 يوليو 2022
05 أكتوبر 2021