الثورة السورية... النصر أو الموت

22 فبراير 2016
سنبقى مع الثورة السورية (مواقع التواصل)
+ الخط -
سنة 1992، كنتُ أحبّ حافظ الأسد. لم أملك لذلك الحبّ سببًا، غير أنني رأيتُ الناس حولي يحبّونه كثيرًا ويقدّرونه. كان لا بدّ من سببٍ قويّ ووجيه لكلّ هذه المشاعر الفياضة. كانت صورتُه معلقةً في كلّ صفّ من صفوف مدرستنا، ومكتوبة إلى جوارها كلمة "أنا"، وبينهما "علامةُ حبّ"! كما كانت صورته ذاتها على صدر شهاداتنا المدرسية! كنا نهتفُ باسمه كلّ صباح: "عاش الأبُ القائد حافظ الأسد"، ولم يكن عقلي الصغيرُ يستوعبُ أنّ كلّ إجراءات "المحبّة" هذه مفروضةٌ بالحديد والنار، وأنّ هذا الحُبّ العارم إجباريّ بالكلية.


أحجم والدانا عن توضيح الأمور لنا، فهذان الشابّان المغتربان في غنىً، هما وأطفالهما، عن أيّة إثارةٍ لضباط المخابرات الأسوأ في العالم، لكننا حين زرنا بيت صديق الوالد، الشهيد عدنان الغول، رحمه الله، تحصّلنا على كثيرٍ من "الثقافة السياسية"، والمعلومات التي لم نكن نتوقعها عن الرئيس/الإله! كانت بناتُ "أبي بلال" أكبر منّا سنًا، وأعلم بحقيقة الرجل، وحين مرّت صورته في التلفاز شتمنه وانتقصنه، فقلنا: أستغفر الله، أتشتمن الأب القائد حافظ الأسد، فأجبننا: إنه ليس بأب، ولا قائدٍ ولا حافظ ولا أسد، وإنه فعل وفعل، فأنبأننا بخبيئة أمره، وصدمننا بفظاعة تاريخه، فانقلب حبّنا له بغضًا، ورغبةً في الانتقام.

لم يكن بأيدينا شيء، غير أننا صبيحة اليوم التالي، وحين هتف التلامذةُ من حولنا: "عاش الأب القائد"، أخرجنا ألسنتنا، و"عيّبنا عليه"، فكان آخر ما استطعناه، ونحمدُ الله أنه لم يفطن إلينا أحدٌ من الكبار، فنجّى الله والدينا من تلك المغامرة، التي لم ندرك عواقبها الممكنة إلا بعد سنين.

أقمنا في سورية سنة تقريبًا، وبعد عودتنا إلى فلسطين بسنوات قليلة، رجعتُ فسألتُ والدتي عن حافظ الأسد، فحدّثتني عن طغيانه وإجرامه، وعن حماة وأخبارها وشهدائها، لم أجد فرقًا بينه وبين ما سمعتُ عن مجازر الصهاينة التي تسببت في هجرة أهالينا، أو ربما وجدتُ فرقًا، لكنني أغضيتُ عنه، لأنه كان مع الأسف لصالح الصهاينة!

حين اندلعت الثورة السورية، أيدتُّها بكلّ جوارحي، كنتُ قد كتبتُ تدوينةً يوم هرب (الرئيس التونسي) بن علي، ختمتُها بكلمة "العقبى للبقية"، وصرتُ أكثر تفاؤلًا بعد تنحي مبارك، واشتعال ثورتي ليبيا واليمن، ورجوتُ أن تكون العقبى للبقية فعلًا، وكان نظام الأسد أولاها عندي، لسواد تاريخه، وقُبح حاضره، وشبهه البالغ بنظام بن علي في بوليسيّته، وفرضه عبادة الزعيم على الناس.

كان نظام الأسد حليفًا للمقاومة الفلسطينية، كما كان يدعي، وقد حاول بداية الثورة السورية، أن يبذل كل جهده لجعل الثورة عليه مؤامرةً كونية، دبّرت له بسبب دعمه لفلسطين، وقد كان بشعًا جدًا بالنسبة إلي كفلسطينيّ، أن أرى قضيّتي بعظمتها وقدسيّتها "ممسحةً" لجرائم الدكتاتور الصغير، ولذلك بدأتُ في الكتابة مؤيدًا الثورة، ومهاجمًا النظام المجرم، ثم شاركتُ في كل الأنشطة التضامنية التي عقدت في غزة، تحت اسم "التجمع الفلسطيني لنصرة الثورة السورية"، تحدّثتُ كثيرًا خلال الوقفات، ودومًا كنتُ أردد: لن تكون فلسطين سكينًا يُذبح بها أطفال سورية.

بدأت الثورة السورية كما شهد العالمُ سلميةً محضة، فتعامل معها النظام تعاملًا أمنيًا منذ اليوم الأول، سجن صغارًا وعذبهم، وأرهق الناس بالرصاص حتى انشقّ أخيرًا عن الجيش بعضُ الأحرار، فقاتلوا النظام تحت اسم الجيش السوريّ الحر، وبدأت الثورة تأخذ منحى عسكريًا.

كان الأمرُ كما وصفه حسن نصر الله حين تكلم عن الثورة الليبية، وقال: إنها حربٌ اضطرّ القذافيّ إليها الناس، وهو وحده يتحمل مسؤوليتها، وأرسل التحية من مقاومة لبنان إلى مجاهدي ليبيا، كما وصفهم حينذاك.

كان التدخل الإيرانيّ أسوأ كارثة منيت بها الثورة، لم يمنع الاصطفاف الإيراني المجرم سقوط نظام الطاغية فحسب، بل أشعل أنفاس الطائفية، وفتح الأبواب أمام ضحايا التجييش الطائفي من كل عرق وملة، ليدخلوا سورية، ويعيثوا فيها خرابًا، وللقارئ أن يتخيّل مسار الأحداث لو أنّ إيران لم تستسلم لجشعها وطائفيتها، ولم تدعم بشار الأسد! يكفي إيران وزرًا ما جنته على "حزب الله"، إذ أسقطته وعرّته تمامًا في أعين أبناء الأمة، وأصبح منبوذًا في محيطه، هينًا على عدوّه، ضعيفًا مستنزفًا أمامه.

طيلة سنوات الثورة، يتّهمُ النظامُ وحلفاؤه الثورة بالعمالة والخيانة، والاستقواء بالأجنبيّ، يا للثورة المسكينة كم خوّنت بسبب دعوى حظر الطيران، التي رفعها بعضُ أبنائها. نوديت الطائرات كثيرًا لتمنع البراميل من أن تسقط على رؤوس المساكين، غير أنها لم تأت إلا لتصبّ مزيدًا من البراميل الأذكى على رؤوسهم! خونت الثورة لدعوى لم تُؤكّد، ثم فتح النظام سماء البلاد لكلّ طائرات الأرض لتقصف أهلها، تحت اسم محاربة "داعش"!

لقد أبدى حسن نصر الله في خطاب قديم تفهمًا كبيرًا للجوء الثوار الليبيين إلى التدخل الغربي، واعتبر ذلك التدخل رضوخًا لهم، وانتصارًا لصمودهم، ثم خوّن الثوار السوريين بسبب طلب بعضهم مثله، ثم صار في النهاية أحد المقاتلين تحت أسراب الطائرات الشرقية والغربية، التي تقصفُ في سورية، بتنسيق كامل مع الصهاينة، فمن أحقّ بالتهمة والتخوين!

ربما بوسع النظام أن ينكر سعيه إلى عسكرة الثورة، ولعله لم يسع في ذلك فعلًا، لكن الذي يصعب إنكاره هو سعيه إلى وصمها بالتطرف و"الإرهاب"، فلا شيء يفسّر إطلاقه معتقلي سجن "صيدنايا" الذين انخرط أكثرهم، بخيرهم وشرّهم في صفوف الثورة المسلحة، التي سُرعان ما اصطبغ كثيرٌ من فصائلها بصبغة متشددة، على أنها حين انطلقت بدأت بضباط من داخل الجيش، تحدّثوا بوضوح عن الديمقراطية والدولة المدنية، لقد كان النظام أكبر المستفيدين من تحويل الصراع ما بين نظام وشعب، إلى صراع بين نظام ومتمردين، ثم بين نظام حداثيّ، ومتطرفين إرهابيين، وهو المتهم الأول في ذلك.

يفرح أنصار النظام إذا ما استولت "داعش" على شيء من مناطق الثوار، وتتهلل وجوههم لصور رؤوس الثوار المقطوعة على أيديهم، بينما لا يفرحون بالعكس، إنّهم يرون الثوار عدوّهم، ويرون "داعش" عقوبة السماء لهؤلاء الذين "تبطّروا" على نعمة الأسد! ولا يزال النظام وحلفاؤه يسعون إلى جعل المعركة ثنائية بين النظام و"داعش"، حتى لا يكون للعالم خيار! هذا العالمُ الذي بدأ يستسلمُ فعلًا لدعوى انعدام البديل، وأنّ الأسد أهون الشرور!

يفرحُ الدواعشُ بسقوط المدن من أيدي الثوار، ويستغلون قصف الروس، وهجوم النظام والمليشيات على الثوار، لأخذ المزيد من الأرض، وسحق ما تبقى من القوى الثورية، ولا يعلمون أنّ وجود هذه القوى هو الذي يعصمهم من الفناء والجلاء عن الأرض السورية، والذي سيبدأ فعلًا حين ينتهي دورهم في الثنائية المحببة لدى النظام، داعش أو الأسد.

تشهد الثورة السورية هذه الأيام أحداثًا عصيبة، تسقط المدن والأحياء تباعًا في أيدي المليشيات الشيعية التي أتى بها النظام من أقصى الأرض، وتُحاصر قواتها بين الخونة من الكُرد، والدواعش الانتهازيين، هذا وطائرات الاحتلال الروسيّ تصبّ جحيمها على رؤوسهم صبًا، ويقبضُ شبابُ حلب الأحرار على جمرة الثورة الملتهبة، متسلحين بالإيمان والعمل!

بداية الثورة السورية، كانت المدن السورية تتضامن مع بعضها بهتافٍ جميل، "يا درعا نحنا معاكي للموت"، "يا حماة نحنا معاكي للموت"، ونحنُ أخذنا عنهم هذا الهتاف يوم تضامنّا معهم، نحنُ لم نؤيد الثورة السورية على شرط النصر، نعرفُ أن الثورة مغامرة في الأصل، ومعركةٌ تحتملُ الخاتمتين! نحن حين أيدّنا الثورة، افترضنا الأسوأ، وعاهدناها على أن نبقى معها حتى الموت، موتنا نحن، أو موت أبطالها، سنبقى معها حتى النصر أو الموت، مع شبابها الحرّ، نتحلّق وهذه القلة الصابرة، حول ما تبقى من جذوة العزم والأمل، فهلا أفسحتُم لنا يا رفاق!

(فلسطين)

المساهمون