04 نوفمبر 2024
الثورة الدلالية وخطاب الاستبداد
اللغة مُنتج إنساني، معها انتقل الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، لكنها تستقلّ عنه ويَخضع لسلطتها. ولا تتمثل سلطة اللغة في أنها تفرض "كيف نقول"، بل أيضا، في أنها حين تتيح لنا التعبير عن أفكارنا، تحجب بعضها الآخر. فأن نتكلم، كما يذهب رولان بارت ليس هو أن نتواصل، بل أن نسود ونسيطر.
وفق بارت، السلطة "جرثومة عالقة بجهازٍ يخترق المجتمعَ ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده"، والشيء الذي تُرسم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو اللغة التي تنطوي على "علاقة استلاب قاهرة". فليس النطق والخطاب تبليغاً كما يقال عادة، بل اللغة "إخضاع وتوجيه معمّمان". وحين تتكرّر قواعدها المتوارثة جيلا بعد جيل، تترسخ بين أفراد المجتمع، وتمارس عليهم سلطتها الداخلية.
ويؤكد بيير بورديو أن ليس للكلمات سلطة خاصة بها، بل تستمدها من الخارج، من التفويض المؤسساتي الذي يمنح الكلام والمتكلم تأثيرا وسلطة، تتماشى مع مكانة تلك المؤسسة في النسيج الاجتماعي.
منذ بدايات الوعي الديني، امتلكت اللغة أسبقيةً على الكينونة، فبرزت العلاقة بين الدال والمدلول، لا بوصفها علاقةً اعتباطية، تخدم إنتاج الدلالة أو المعنى، بل علاقة أنطولوجية (وجودية). ففي قصة الخلق الفرعونية، كان الإله بتاح (فاتح فاه) بمجرد أن يتلفظ بالشيء يصبح موجوداً. وفي التوراة "وقال الله ليكن نور فكان نور"، وفي الإنجيل "في البدء كان الكلمة".
ربما كان العرب، في مساراتهم التاريخية، حالةً نموذجية لفاعلية السلطة بأشكالها المتعدّدة في الفضاء الاجتماعي، والممتدّة في الزمان التاريخي. وفرضت اللغة سلطتها، منذ أن استَكمل الشعرُ الصراعَ الوجودي على الماء والكلأ بين قبائل شبه الجزيرة العربية، فكان مديحا وهجاء، على لسان الشعراء المعتمدين من مؤسسة القبيلة، يمنح الحياة معناها العميق.
أعاد القرآن إنتاج حياة قبائل شبه الجزيرة العربية، وراح، بلسان عربي مبين، يرسم عالمهم الجديد عبر دلالاتٍ لغوية جديدة، وشكّل سلطة معرفية لغوية. استكمل النبي عالم الدلالة الجديد، فغير اسم عاصية إلى جميلة، وبني مَغوية إلى بني رُشْدَة. ويثرب إلى طيبة. ولقّبَ أبا بكر بالصديق، وعمر بالفاروق. وفي المقابل، أصبح أبو الحكم أبا جهل، وعبد العزّى أبا لهب. تطلّب القطع مع "الجاهلية" فضاءً دلالياً مغايراً: "لكم دينكم ولي دين".
وبالإضافة إلى "العربية" المكرّسة "إسلاميا"، كان امتلاك العرب وعياً ذاتياً تاريخياً مشروطاً
بامتلاكهم وعياً سلاليا. فألحّ عمر بن الخطاب على تعلم النسب "ولا تكونوا كنبيط (الأنباط) السواد، إذا سئل أحدهم عن نسبه، قال: من قرية كذا وكذا" (العقد الفريد ج 3). استمرت الكلمة / الاسم تمارس سلطتها، عبر سلسلةٍ متعاقبةٍ زمنياً تجاوزت الجد القبلي الخاص، مروراً بإبراهيم جداً عربياً مشتركا، ومنه إلى آدم. الأمانة التي أشفقت من حملها السموات والأرض والجبال آلت إلى العرب، فحملوا رسالة السماء فصلاً أخيراً لتطور البشرية الروحي.
كان احتكار سلطة اللغة احتكاراً للوعي العام، ودار الصراع الأيديولوجي السياسي في فضاء النص وعلى دلالاته. سعت السلطة السياسية، طوال عصر التدوين (ابتداء من 150 هـ) إلى تثبيت الذاكرة الجمعية، وفق توجهاتها الأيديولوجية. وعبر التأويل العقلي، حاولت المعارضة الفكرية خلخلة خطاب السلطة، واستعادة عناصرَ تلقٍّ كانت مغيّبة في فهم النص، واستحضار دلالاتٍ محتملة، كانت مستبعدةً، تتماشى وروح العصر. فشل خطاب التنوير، وبقي ضمن دائرته النخبوية محروماً من امتداده الأفقي، وبقي النص حبيس تراثاتٍ تفسيرية مؤطّرة مذهبيا.
الفاشية، كما يذهب بارت، ليست هي "الحيلولة دون الكلام، وإنما هي الإرغام عليه". في الحالة العربية، فاقت فاشية السياسة فاشية اللسان، فحين دخل الشعبي على الحجاج، قال له: كم عطاءَك؟ قال ألفين. قال ويحك! كم عطاؤك؟ قال ألفان. قال: فلم لحنت فيما لا يلحن مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت. ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه" فأجزل له العطاء. (العقد الفريد ج 2).
استمرت النخب العربية في احتكار السلطة والثروة، واحتكر خطابها الوعي الاجتماعي. تلاعبت السلطة بدلالات اللغة وإحالاتها، ورسمت مستقبلاً من شعاراتٍ وخطب رنانة، وأوجدت حاجاتٍ بيانيةً على حساب الحاجات الروحية والمادية. وفي انتظار "أم المعارك"، كانت انتصارات اللغة تعوّض الهزائم المتلاحقة. ومن دون حداثةٍ سياسية، واستقلالية مجتمع مدني، تكرّست تبعية الخطاب الثقافي العلمي والتربوي للخطاب السياسي، وفي غياب اختيار من متعدّدٍ، تغيب مغايرة دلالية، وبقي خطاب السلطة مألوفاً ومسيطراً على الوعي الاجتماعي، حين أنتجت القواسم الشعاراتية المشتركة بين أيديولوجيا السلطة والمعارضة العلمانية التقليدية خطاباً توفيقياً، صبّ في صالح تعزيز مواقع النخب الحاكمة.
استمرت مفاعيل خطاب الاستبداد تلقى سندها في الوضعية الاجتماعية التاريخية المتحولة كمّاً لا نوعا، بينما رزح الخطاب التنويري النخبوي تحت إرث الانسحاب والهزيمة، وعجز عن إحداث ثورةٍ دلاليةٍ، تؤسس خطاباً مدنياً، تستند مفاعيله إلى تحقيق قطيعةٍ مع الوصاية الأبوية (البطريركية) التي تبنى دلالاتها من أعلى إلى أسفل، وتحصر الذات في مسالك المرجعيات.
توجهات الخصخصة واقتصاد السوق جلبت معها خصخصةً في وسائل الميديا الحديثة، أحدثت
خرقاً في الإعلام الرسمي، وفكّكت، بغثّها وسمينها، وعلى الرغم من توظيفاتها وتحيزاتها، ما استقر طويلا في الوعي الجمعي، بوصفه مسلماً به، لكنها بقيت من دون بناء "النظرية". ومع تصدّع الأيديولوجيات العربية، تساقطت الشعارات المُتواطأ عليها، وخرجت المعارضة عن دائرتها الضيقة، واكتسبت طابع احتجاج جماهيري واسع. وبعد طول أمدٍ من انسداد الأفق، ودخول الجميع في حربٍ ضد الجميع، وفوضى وجودية غير خلاقة، تنامى قلق هوياتيٌّ حاد، وحظي الخطاب الأصولي، الطائفي والمذهبي، بمزيدٍ من جاذبية، ليكرس استبداداً معكوساً. تماهى خطاب المعارضة التقليدية مع خطاب السلطة السياسية، ولم يستطع خطابٍ تنويري ملء الفراغ.
مبكرا، أدرك جبران خليل جبران مَعْلَماً أساسياً للثورة الدلالية اللازمة، حين رفض الوقوف عند حدود الشكوى من لغةٍ لتبرير أخرى، فقال "لكم لغتكم.. ولي لغتي".
وفق بارت، السلطة "جرثومة عالقة بجهازٍ يخترق المجتمعَ ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده"، والشيء الذي تُرسم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو اللغة التي تنطوي على "علاقة استلاب قاهرة". فليس النطق والخطاب تبليغاً كما يقال عادة، بل اللغة "إخضاع وتوجيه معمّمان". وحين تتكرّر قواعدها المتوارثة جيلا بعد جيل، تترسخ بين أفراد المجتمع، وتمارس عليهم سلطتها الداخلية.
ويؤكد بيير بورديو أن ليس للكلمات سلطة خاصة بها، بل تستمدها من الخارج، من التفويض المؤسساتي الذي يمنح الكلام والمتكلم تأثيرا وسلطة، تتماشى مع مكانة تلك المؤسسة في النسيج الاجتماعي.
منذ بدايات الوعي الديني، امتلكت اللغة أسبقيةً على الكينونة، فبرزت العلاقة بين الدال والمدلول، لا بوصفها علاقةً اعتباطية، تخدم إنتاج الدلالة أو المعنى، بل علاقة أنطولوجية (وجودية). ففي قصة الخلق الفرعونية، كان الإله بتاح (فاتح فاه) بمجرد أن يتلفظ بالشيء يصبح موجوداً. وفي التوراة "وقال الله ليكن نور فكان نور"، وفي الإنجيل "في البدء كان الكلمة".
ربما كان العرب، في مساراتهم التاريخية، حالةً نموذجية لفاعلية السلطة بأشكالها المتعدّدة في الفضاء الاجتماعي، والممتدّة في الزمان التاريخي. وفرضت اللغة سلطتها، منذ أن استَكمل الشعرُ الصراعَ الوجودي على الماء والكلأ بين قبائل شبه الجزيرة العربية، فكان مديحا وهجاء، على لسان الشعراء المعتمدين من مؤسسة القبيلة، يمنح الحياة معناها العميق.
أعاد القرآن إنتاج حياة قبائل شبه الجزيرة العربية، وراح، بلسان عربي مبين، يرسم عالمهم الجديد عبر دلالاتٍ لغوية جديدة، وشكّل سلطة معرفية لغوية. استكمل النبي عالم الدلالة الجديد، فغير اسم عاصية إلى جميلة، وبني مَغوية إلى بني رُشْدَة. ويثرب إلى طيبة. ولقّبَ أبا بكر بالصديق، وعمر بالفاروق. وفي المقابل، أصبح أبو الحكم أبا جهل، وعبد العزّى أبا لهب. تطلّب القطع مع "الجاهلية" فضاءً دلالياً مغايراً: "لكم دينكم ولي دين".
وبالإضافة إلى "العربية" المكرّسة "إسلاميا"، كان امتلاك العرب وعياً ذاتياً تاريخياً مشروطاً
كان احتكار سلطة اللغة احتكاراً للوعي العام، ودار الصراع الأيديولوجي السياسي في فضاء النص وعلى دلالاته. سعت السلطة السياسية، طوال عصر التدوين (ابتداء من 150 هـ) إلى تثبيت الذاكرة الجمعية، وفق توجهاتها الأيديولوجية. وعبر التأويل العقلي، حاولت المعارضة الفكرية خلخلة خطاب السلطة، واستعادة عناصرَ تلقٍّ كانت مغيّبة في فهم النص، واستحضار دلالاتٍ محتملة، كانت مستبعدةً، تتماشى وروح العصر. فشل خطاب التنوير، وبقي ضمن دائرته النخبوية محروماً من امتداده الأفقي، وبقي النص حبيس تراثاتٍ تفسيرية مؤطّرة مذهبيا.
الفاشية، كما يذهب بارت، ليست هي "الحيلولة دون الكلام، وإنما هي الإرغام عليه". في الحالة العربية، فاقت فاشية السياسة فاشية اللسان، فحين دخل الشعبي على الحجاج، قال له: كم عطاءَك؟ قال ألفين. قال ويحك! كم عطاؤك؟ قال ألفان. قال: فلم لحنت فيما لا يلحن مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت. ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه" فأجزل له العطاء. (العقد الفريد ج 2).
استمرت النخب العربية في احتكار السلطة والثروة، واحتكر خطابها الوعي الاجتماعي. تلاعبت السلطة بدلالات اللغة وإحالاتها، ورسمت مستقبلاً من شعاراتٍ وخطب رنانة، وأوجدت حاجاتٍ بيانيةً على حساب الحاجات الروحية والمادية. وفي انتظار "أم المعارك"، كانت انتصارات اللغة تعوّض الهزائم المتلاحقة. ومن دون حداثةٍ سياسية، واستقلالية مجتمع مدني، تكرّست تبعية الخطاب الثقافي العلمي والتربوي للخطاب السياسي، وفي غياب اختيار من متعدّدٍ، تغيب مغايرة دلالية، وبقي خطاب السلطة مألوفاً ومسيطراً على الوعي الاجتماعي، حين أنتجت القواسم الشعاراتية المشتركة بين أيديولوجيا السلطة والمعارضة العلمانية التقليدية خطاباً توفيقياً، صبّ في صالح تعزيز مواقع النخب الحاكمة.
استمرت مفاعيل خطاب الاستبداد تلقى سندها في الوضعية الاجتماعية التاريخية المتحولة كمّاً لا نوعا، بينما رزح الخطاب التنويري النخبوي تحت إرث الانسحاب والهزيمة، وعجز عن إحداث ثورةٍ دلاليةٍ، تؤسس خطاباً مدنياً، تستند مفاعيله إلى تحقيق قطيعةٍ مع الوصاية الأبوية (البطريركية) التي تبنى دلالاتها من أعلى إلى أسفل، وتحصر الذات في مسالك المرجعيات.
توجهات الخصخصة واقتصاد السوق جلبت معها خصخصةً في وسائل الميديا الحديثة، أحدثت
مبكرا، أدرك جبران خليل جبران مَعْلَماً أساسياً للثورة الدلالية اللازمة، حين رفض الوقوف عند حدود الشكوى من لغةٍ لتبرير أخرى، فقال "لكم لغتكم.. ولي لغتي".