24 أكتوبر 2024
الثورات العربية واحتلال الفضاء العام
يُفترض بأي تغيّر كبير في حياة الشعوب أن تصاحبه تغيّراتٌ كبيرة على مستوى الكتابة وأدوات التعبير، فالتغيير يحتاج إلى الجديد حاجة الحياة الطبيعية إلى الماء. لأنه من دون هذا الماء لا توجد حياة، كذلك من دون كتابة جديدة وأدوات تعبير جديدة، ليس للتغيير والثورات أثر كبير على حياة المجتمع الذي يجب أن يمسك بحياته الجديدة بإمساكه بالفضاء العام.
شكلت الثورات العربية متغيراً كبيراً في حياة المنطقة وشعوبها، لكن مفارقة هذا التغير الكبير، أنه لم يُولد بعد كتابته وأدواته التعبيرية الجديدة. وإذا كانت هناك أسبابٌ كثيرة جعلت الثورة على السلطات المستبدة في العالم العربي مسألةً في غاية الضرورة والإلحاح التاريخيين، إذا لم نقل إنها تأخرت في قدومها، وحتى تكتمل فعالية هذه الثورات، يجب أن تمتلك لغتها الجديدة، وأدوات التعبير الضرورية، لتعزيز هذا المتغير بوصفه معطى نهائيا لا رجوع عنه، بديلا عن واقع رديء كان قائماً.
يبدو أن مفارقة الثورات العربية ونقطة ضعفها تكمن هنا بالضبط، في امتلاكها عالمها الحقيقي، من خلال امتلاك الفضاء العام، وبالتالي، توظيف أقصى المتخيل الإبداعي للتغيير الضروري، من أجل إنجاز واقعٍ جديدٍ، بديل عن الواقع الذي استدعى الثورة عليه. لذلك، ليست الكتابة واللغة الجديدتان تزييناً وترفاً للثورات، بقدر ما هما حاجة وضرورة للإمساك في الواقع الجديد والمستقبل اللذين يحتاجان إلى لغة جديدة، نقيض اللغة السابقة، وكتابة نقيض الكتابة السابقة، حتى نتمكّن من إنتاج المستقبل الذي تسعى إليه الثورات العربية، بمطالبها المحقة في التغيير، والحصول على الحقوق الأساسية التي طالما افتقدتها البلدان العربية التي اجتاحتها الثورات بذرائع مختلفة.
السبب الرئيسي لهذا الواقع المفارق للثورات العربية، هي المسافة الفاصلة بين الذاتي والموضوعي، ونقصد أن هناك فائضاً في العوامل الموضوعية في الدولة العربية التي استدعت الثورات. ولكن، لم تملك هذه البلدان القوى السياسية التي تحمل مشروع التغيير إلى آخره، من خلال قواها التنظيمية وتأثيرها في المجتمعات التي ثارت على سلطاتها. لذلك، بدت الثورات العربية، بوصفها ثوراتٍ على السلطات القائمة، من دون أن تمتلك البديل المستقبلي عن هذه السلطات، وهذا ما ظهر بوصفه مأزق الثورات العربية، بأنها بدأت، لكن لم يكن أحدٌ يعرف إلى أين يمكن أن تذهب، لأن القوى المفجّرة للثورة ليست هي التي تحتل الحقل السياسي والثقافي العام في هذه البلدان. وحتى بوقوع الثورات، لم يجرِ تغير جديد مطابق في الخريطة
السياسية لهذه البلدان، ما أظهر أن هذا المتغير طارئ أكثر منه تغيراً مستمراً. وهذا لا ينطبق فقط على البلدان التي لم تعانِ من صراع مسلح، حالة مصر وتونس، بل وحتى في البلدان التي عانت من هذا النوع من الصراع، مثل سورية وليبيا واليمن، والتي افتقدت جميعها اليوم القوى الحية التي أطلقت الثورات العربية. بمعنى أن الصراع استمر بالأدوات السياسية القديمة التي كانت قائمةً قبل الثورات، والقوى التي فجرتها اختفت، وفي مقدمتها الناشطون الشباب الذين تعرّضوا إلى تصفيةٍ جسديةٍ، أو أبعدهم الإحباط عن ساحة الفعل السياسي، عندما وجدوا أنفسهم عزلاء في عالم بات مسلحاً، والفاعلون الخارجيون فيه أقوى من القوى الوطنية الداخلية.
من مفارقات الثورات في العالم العربي أن انفجارها جاء بفعل قوىً من خارج الساحة السياسية التقليدية، وبعض القوى التقليدية التحقت بالثورة متأخرة. وهذا ما جعل الثورات مُفاجئةً للسلطات، حيث لم تأتِ من المكان الذي توقعته السلطات القائمة من القوى السياسية التقليدية التي تعرّضت إلى إخصاء بفعل القمع التاريخي للسلطات ذات الطابع الاستبدادي. ما جعل الساحة السياسية التقليدية في الدول العربية ساحةً عقيمة، وهو ما دلت عليه الثورات نفسها بانطلاقها من تجمعات شبابية جديدة وهامشية، لم تأخذها السلطات على محمل الجد، لكنها، في الوقت التي دعت فيه إلى التغير، كان الصدى واسعاً وشاملاً في المجتمعات الوطنية. لكن هذه القوى الصغيرة لم تتحوّل قوىً رئيسية في ساحة الفعل السياسي، والأغلبية الساحقة من الشباب الذين أطلقوا هذه الشرارات غادروا ساحة العمل السياسي في لحظة سقوط رأس النظام في حالتي مصر وتونس، وتم إخراجهم في حالات سورية واليمن وليبيا، بفعل احتلال قوى إسلامية المشهد، ما أظهر وكأن الثورات العربية أنتجت عكس ما كان مطلوباً منها.
بقاء القوى الرئيسية المحركة للثورات العربية خارج الساحة السياسية أفقدها أداة التعبير الرئيسية عن نفسها، وهو احتلال موقعها الطبيعي في الفضاء العام للبلد الذي ثار على سلطاته الاستبدادية. وقد ترك عدم حصول ذلك الساحة السياسية للأدوات السياسية السابقة نفسها، بما فيها أدوات النظام السياسي السابق. وبقيت وسائل الإعلام المؤثرة في هذه البلدان ممسوكة من القوى السابقة نفسها، ما أظهر أن الصراع عاد إلى مكوّنه ما قبل الثورة في الساحة السياسية الفقيرة التي كانت قائمة قبل الثورات العربية.
ترينا النظرة السريعة على وسائل الإعلام والصحف أن الأسماء التي تحتل المكانة الأكبر هي نفسها التي كانت قائمة قبل الثورات، وأن أسماء قليلة جديدة انضمت إلى هذه النخبة، إذا صح التعبير. وهذا شيء مختلف من أن يجتاح اتجاه عام وسائل الإعلام بوصفه التيار المعبّر عن الثورات العربية، وبالتالي عن المستقبل، وهذا ما افتقد إليه الفضاء العام بعد وقوع الثورات العربية، وهو ما كان خسارةً كبيرةً للثورات من أن تملك خطابها وأدوات تعبيرها، أو على الأقل أن يحتل تيارها الحيز المناسب لحجم الفعل التاريخي الذي قامت به. لكن للأسف، على هذا المستوى، بقينا نعيش تحت خطاب نخبةٍ سياسيةٍ تجتر الخطاب السياسي نفسه الذي كانت تجتره في زمن الاستبداد.
شكلت الثورات العربية متغيراً كبيراً في حياة المنطقة وشعوبها، لكن مفارقة هذا التغير الكبير، أنه لم يُولد بعد كتابته وأدواته التعبيرية الجديدة. وإذا كانت هناك أسبابٌ كثيرة جعلت الثورة على السلطات المستبدة في العالم العربي مسألةً في غاية الضرورة والإلحاح التاريخيين، إذا لم نقل إنها تأخرت في قدومها، وحتى تكتمل فعالية هذه الثورات، يجب أن تمتلك لغتها الجديدة، وأدوات التعبير الضرورية، لتعزيز هذا المتغير بوصفه معطى نهائيا لا رجوع عنه، بديلا عن واقع رديء كان قائماً.
يبدو أن مفارقة الثورات العربية ونقطة ضعفها تكمن هنا بالضبط، في امتلاكها عالمها الحقيقي، من خلال امتلاك الفضاء العام، وبالتالي، توظيف أقصى المتخيل الإبداعي للتغيير الضروري، من أجل إنجاز واقعٍ جديدٍ، بديل عن الواقع الذي استدعى الثورة عليه. لذلك، ليست الكتابة واللغة الجديدتان تزييناً وترفاً للثورات، بقدر ما هما حاجة وضرورة للإمساك في الواقع الجديد والمستقبل اللذين يحتاجان إلى لغة جديدة، نقيض اللغة السابقة، وكتابة نقيض الكتابة السابقة، حتى نتمكّن من إنتاج المستقبل الذي تسعى إليه الثورات العربية، بمطالبها المحقة في التغيير، والحصول على الحقوق الأساسية التي طالما افتقدتها البلدان العربية التي اجتاحتها الثورات بذرائع مختلفة.
السبب الرئيسي لهذا الواقع المفارق للثورات العربية، هي المسافة الفاصلة بين الذاتي والموضوعي، ونقصد أن هناك فائضاً في العوامل الموضوعية في الدولة العربية التي استدعت الثورات. ولكن، لم تملك هذه البلدان القوى السياسية التي تحمل مشروع التغيير إلى آخره، من خلال قواها التنظيمية وتأثيرها في المجتمعات التي ثارت على سلطاتها. لذلك، بدت الثورات العربية، بوصفها ثوراتٍ على السلطات القائمة، من دون أن تمتلك البديل المستقبلي عن هذه السلطات، وهذا ما ظهر بوصفه مأزق الثورات العربية، بأنها بدأت، لكن لم يكن أحدٌ يعرف إلى أين يمكن أن تذهب، لأن القوى المفجّرة للثورة ليست هي التي تحتل الحقل السياسي والثقافي العام في هذه البلدان. وحتى بوقوع الثورات، لم يجرِ تغير جديد مطابق في الخريطة
من مفارقات الثورات في العالم العربي أن انفجارها جاء بفعل قوىً من خارج الساحة السياسية التقليدية، وبعض القوى التقليدية التحقت بالثورة متأخرة. وهذا ما جعل الثورات مُفاجئةً للسلطات، حيث لم تأتِ من المكان الذي توقعته السلطات القائمة من القوى السياسية التقليدية التي تعرّضت إلى إخصاء بفعل القمع التاريخي للسلطات ذات الطابع الاستبدادي. ما جعل الساحة السياسية التقليدية في الدول العربية ساحةً عقيمة، وهو ما دلت عليه الثورات نفسها بانطلاقها من تجمعات شبابية جديدة وهامشية، لم تأخذها السلطات على محمل الجد، لكنها، في الوقت التي دعت فيه إلى التغير، كان الصدى واسعاً وشاملاً في المجتمعات الوطنية. لكن هذه القوى الصغيرة لم تتحوّل قوىً رئيسية في ساحة الفعل السياسي، والأغلبية الساحقة من الشباب الذين أطلقوا هذه الشرارات غادروا ساحة العمل السياسي في لحظة سقوط رأس النظام في حالتي مصر وتونس، وتم إخراجهم في حالات سورية واليمن وليبيا، بفعل احتلال قوى إسلامية المشهد، ما أظهر وكأن الثورات العربية أنتجت عكس ما كان مطلوباً منها.
بقاء القوى الرئيسية المحركة للثورات العربية خارج الساحة السياسية أفقدها أداة التعبير الرئيسية عن نفسها، وهو احتلال موقعها الطبيعي في الفضاء العام للبلد الذي ثار على سلطاته الاستبدادية. وقد ترك عدم حصول ذلك الساحة السياسية للأدوات السياسية السابقة نفسها، بما فيها أدوات النظام السياسي السابق. وبقيت وسائل الإعلام المؤثرة في هذه البلدان ممسوكة من القوى السابقة نفسها، ما أظهر أن الصراع عاد إلى مكوّنه ما قبل الثورة في الساحة السياسية الفقيرة التي كانت قائمة قبل الثورات العربية.
ترينا النظرة السريعة على وسائل الإعلام والصحف أن الأسماء التي تحتل المكانة الأكبر هي نفسها التي كانت قائمة قبل الثورات، وأن أسماء قليلة جديدة انضمت إلى هذه النخبة، إذا صح التعبير. وهذا شيء مختلف من أن يجتاح اتجاه عام وسائل الإعلام بوصفه التيار المعبّر عن الثورات العربية، وبالتالي عن المستقبل، وهذا ما افتقد إليه الفضاء العام بعد وقوع الثورات العربية، وهو ما كان خسارةً كبيرةً للثورات من أن تملك خطابها وأدوات تعبيرها، أو على الأقل أن يحتل تيارها الحيز المناسب لحجم الفعل التاريخي الذي قامت به. لكن للأسف، على هذا المستوى، بقينا نعيش تحت خطاب نخبةٍ سياسيةٍ تجتر الخطاب السياسي نفسه الذي كانت تجتره في زمن الاستبداد.