12 اغسطس 2018
التوافق من أسباب أزمة الحكم في تونس
كشفت نتيجة الانتخابات التشريعية الجزئية التونسية في ألمانيا، على الرغم من محدوديتها من حيث نسبة التصويت وعدد الأصوات التي حصل عليها الفائز فيها، ياسين العياري، عن ظاهرة العزوف الانتخابي وعن المشاركة في العمل السياسي بشكل عام. وأصبحت الأحزاب السياسية، سواء التي تحكم الآن، أو التي تتموقع في المعارضة، متخوفة من ارتدادات هذه الظاهرة، لا سيما وأن البلاد مقبلة على استحقاقات انتخابية منتظرة (البلدية في 2018 والتشريعية والرئاسية في 2019). كما يُؤكده أيضا تراجع عدد انخراطات المواطنين في الأحزاب، القديمة والتي وقع تأسيسها حديثا.
ويعود فقدان الأحزاب السياسية هيبتها وقيمتها، وتزايد نفور عموم التونسيين وعزوفهم عن العمل الحزبي والنشاط السياسي، إلى هشاشة التجربة الديمقراطية التي انخرطت فيها تونس منذ سنة 2011، سيما في ظل ما باتت، تعرف في الخطاب السياسي الرسمي، بتجربة التوافق في الحكم، سواء في عهد تجربة الترويكا الفاشلة بقيادة حركة النهضة التي قادت البلاد إلى أزمة سياسية خانقة، نتيجة "إصرار" النهضة على انتهاج سياساتٍ تعكس نظرتها أكثر مما تعكس انتظارات الشعب التونسي، أو في عهد تجربة الائتلاف في الحكم القائم على التحالف بين حزبي نداء تونس والنهضة، بوصفه من إكراهات الواقع، والأوضاع التي تغلب عليها الفسيفساء السياسية، وتمزّق المشهد العام، وسط حالة من الرهاب والتوجس، بشأن إدارة الشأن العام، وتسيير مؤسسات الدولة، والتعاطي مع مشاغل التونسيين، في ظل شراهة مكونات المشهد للحكم والتموقع الغنائمي.
تعيش تونس في ظل ديمقراطية ناشئة، وتواجه صعوبات جمة، لأن الثورة ليست الديمقراطية، ولأن الانقسام السياسي والأيديولوجي القائم في المرحلة الانتقالية وما بعدها يتطلب من الأطراف السياسية (سلطة ومعارضة) تبني خيار "الديمقراطية التوافقية" باعتبارها أحد النماذج المقترحة لإنجاز مهمات الثورة في شروطٍ يطبعها الانقسام المجتمعي. إضافة إلى ذلك كله، تعاني تونس، في هذه المرحلة، من ضعف الوحدة الوطنية، وصعوبة الاستقرار السياسي وعُـسر ديمومته. لذا اختار الشيخان، رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، وزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إقامة شراكة في الحكم بين حزبي نداء تونس والنهضة، تحت واقع الإكراهات السياسية والظروف الموضوعية، لا سيما بعد أن رفضت الجبهة الشعبية الالتحاق بالحكم، وتفضيلها البقاء في الدولة ضد السلطة الجديدة من خلال الدور البرلماني.
ففي ظل هذا النظام السياسي الانتقالي الذي تتعدّد فيه مصادر السلطة، والذي هو أقرب من النظم الديمقراطية، من دون التمكن من الوصول إليها، لأن الاستقرار السياسي الذي يشكل شرطاً مفصلياً للديمقراطية التمثيلية غير متحقق في تونس. ولن يتحقق هذا الاستقرار السياسي، إلا حين يتم التوجه نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعدّدية. وتختلف "الديمقراطية التوافقية" عن الديمقراطية التمثيلية، لأنها لا تستند على عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، والاعتماد المتواتر على أسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه إلى أسفله، من دون الخضوع لسلطة الأغلبية، إذ تحتفظ الأقلية بحق النقض أو الاعتراض، ما يجعل قدرتها في مواجهة الأغلبية وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة، وهو ما لا تتيحه الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحوّل إلى أغلبية بدورها.
كشف المسار الديمقراطي التونسي الناشئ منذ انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وانتخابات خريف 2014، عن نقاط ضعفه، في ظل تشرذم القوى السياسية واختلافاتها وتناقضاتها، إذ لم تفرز صناديق الاقتراع سوى نوعٍ من الطوائف الحزبية لا تعكس الواحدة منها سوى 20% من اتجاهات الرأي العام، لترسم خريطة جيوسياسية ممزقة خالية من أي تمثيل واسع لإرادة التونسيين وتطلعاتهم. لهذا السبب بالذات، تشكلت حكومات "الديمقراطية التوافقية" التي لم تكن تمتلك برامج اقتصادية لمحاربة الفساد الذي أصبحت له لوبيات قوية داخل هياكل (ومؤسسات) الدولة نفسها، حيث استطاعت هذه اللوبيات، بعد الثورة، المزاوجة بين التهريب والإرهاب.
وإذا كان الإكراه الائتلافي بين حزبي نداء تونس والنهضة يهدف إلى تأمين الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني من خلال مساهمة مكوناته في تهدئة الأوضاع، فإن التجربة أظهرت أن الحكومات المتعاقبة تجد نفسها وحيدةً في مواجهة التحديات، وعجزت عن انتهاج نموذج جديد للتنمية، يقوم على إعطاء دور حقيقي للدولة، لكي تضطلع بالمشاريع الاستراتيجية المنتجة، والتحرّر من ضغوط الدول والمؤسسات المالية المانحة التي تريد فرض شروطها، لا سيما برامج الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد، التي تفرض التضييق الأقصى من مجالات تدخّل الدولة، وتوسيع مجال الأفراد الخواص الذين لا يتجاوز عددهم بعض العشرات على حساب ملايين الفقراء، وعلى ضرب منظومة الفساد، وانتهاج سياسة إغراق البلاد في الديون الأجنبية.
ومن يرى أن عنصر التوازن السياسي والاجتماعي يكمن في الائتلاف الحاكم بين حزبي نداء
تونس والنهضة، فهو يعوزه الوعي العميق بحقيقة الأوضاع في تونس، ولئن ساهم الائتلاف في ذلك، فإن التوازن الحقيقي تديره (وتؤمنه) مؤسسات الدولة السيادية التي فرضت هيبتها ولو نسبيا، لكن حكومة "الديمقراطية التوافقية"، بدلاً من أن تتبع نهجا سياديًا وطنياً، أبقت على علاقات التبعية لتونس مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وبعض الدول الخليجية، وأصبح القرار السياسي الوطني السيادي مرتبطًا بمصالح تلك الدول، ولوبياتها الموجودة داخل هياكل الدولة الغنائمية ومؤسساتها.
وقد أبقت هذه الحال حكومة "الديمقراطية التوافقية" على تلك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الفاسدة نفسها، والتي تشكلت تاريخيًا، واستطاعت التداخل مع الدولة، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من تفقير الفقراء وإثراء الأثرياء، وإعادة إنتاج شروط الأزمة الهيكلية التي تعاني منها تونس. إضافة إلى ذلك كله، لم تكن تجربة "الديمقراطية التوافقية" بين الحزبين الكبيرين ناجحةً على صعيد ترسيخ الديمقراطية، إذ لا معنى للائتلاف الحاكم، في غياب عقلية ديمقراطية يتبنّاها الجميع. وهذا ما يمكن استنتاجه في ظل استغاثة الأحزاب الصغرى من هيمنة الحزبين الكبيرين، واستحواذهما على صنع القرار وسياسة التهميش.
ويعود فقدان الأحزاب السياسية هيبتها وقيمتها، وتزايد نفور عموم التونسيين وعزوفهم عن العمل الحزبي والنشاط السياسي، إلى هشاشة التجربة الديمقراطية التي انخرطت فيها تونس منذ سنة 2011، سيما في ظل ما باتت، تعرف في الخطاب السياسي الرسمي، بتجربة التوافق في الحكم، سواء في عهد تجربة الترويكا الفاشلة بقيادة حركة النهضة التي قادت البلاد إلى أزمة سياسية خانقة، نتيجة "إصرار" النهضة على انتهاج سياساتٍ تعكس نظرتها أكثر مما تعكس انتظارات الشعب التونسي، أو في عهد تجربة الائتلاف في الحكم القائم على التحالف بين حزبي نداء تونس والنهضة، بوصفه من إكراهات الواقع، والأوضاع التي تغلب عليها الفسيفساء السياسية، وتمزّق المشهد العام، وسط حالة من الرهاب والتوجس، بشأن إدارة الشأن العام، وتسيير مؤسسات الدولة، والتعاطي مع مشاغل التونسيين، في ظل شراهة مكونات المشهد للحكم والتموقع الغنائمي.
تعيش تونس في ظل ديمقراطية ناشئة، وتواجه صعوبات جمة، لأن الثورة ليست الديمقراطية، ولأن الانقسام السياسي والأيديولوجي القائم في المرحلة الانتقالية وما بعدها يتطلب من الأطراف السياسية (سلطة ومعارضة) تبني خيار "الديمقراطية التوافقية" باعتبارها أحد النماذج المقترحة لإنجاز مهمات الثورة في شروطٍ يطبعها الانقسام المجتمعي. إضافة إلى ذلك كله، تعاني تونس، في هذه المرحلة، من ضعف الوحدة الوطنية، وصعوبة الاستقرار السياسي وعُـسر ديمومته. لذا اختار الشيخان، رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، وزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إقامة شراكة في الحكم بين حزبي نداء تونس والنهضة، تحت واقع الإكراهات السياسية والظروف الموضوعية، لا سيما بعد أن رفضت الجبهة الشعبية الالتحاق بالحكم، وتفضيلها البقاء في الدولة ضد السلطة الجديدة من خلال الدور البرلماني.
ففي ظل هذا النظام السياسي الانتقالي الذي تتعدّد فيه مصادر السلطة، والذي هو أقرب من النظم الديمقراطية، من دون التمكن من الوصول إليها، لأن الاستقرار السياسي الذي يشكل شرطاً مفصلياً للديمقراطية التمثيلية غير متحقق في تونس. ولن يتحقق هذا الاستقرار السياسي، إلا حين يتم التوجه نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعدّدية. وتختلف "الديمقراطية التوافقية" عن الديمقراطية التمثيلية، لأنها لا تستند على عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، والاعتماد المتواتر على أسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه إلى أسفله، من دون الخضوع لسلطة الأغلبية، إذ تحتفظ الأقلية بحق النقض أو الاعتراض، ما يجعل قدرتها في مواجهة الأغلبية وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة، وهو ما لا تتيحه الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحوّل إلى أغلبية بدورها.
كشف المسار الديمقراطي التونسي الناشئ منذ انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وانتخابات خريف 2014، عن نقاط ضعفه، في ظل تشرذم القوى السياسية واختلافاتها وتناقضاتها، إذ لم تفرز صناديق الاقتراع سوى نوعٍ من الطوائف الحزبية لا تعكس الواحدة منها سوى 20% من اتجاهات الرأي العام، لترسم خريطة جيوسياسية ممزقة خالية من أي تمثيل واسع لإرادة التونسيين وتطلعاتهم. لهذا السبب بالذات، تشكلت حكومات "الديمقراطية التوافقية" التي لم تكن تمتلك برامج اقتصادية لمحاربة الفساد الذي أصبحت له لوبيات قوية داخل هياكل (ومؤسسات) الدولة نفسها، حيث استطاعت هذه اللوبيات، بعد الثورة، المزاوجة بين التهريب والإرهاب.
وإذا كان الإكراه الائتلافي بين حزبي نداء تونس والنهضة يهدف إلى تأمين الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني من خلال مساهمة مكوناته في تهدئة الأوضاع، فإن التجربة أظهرت أن الحكومات المتعاقبة تجد نفسها وحيدةً في مواجهة التحديات، وعجزت عن انتهاج نموذج جديد للتنمية، يقوم على إعطاء دور حقيقي للدولة، لكي تضطلع بالمشاريع الاستراتيجية المنتجة، والتحرّر من ضغوط الدول والمؤسسات المالية المانحة التي تريد فرض شروطها، لا سيما برامج الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد، التي تفرض التضييق الأقصى من مجالات تدخّل الدولة، وتوسيع مجال الأفراد الخواص الذين لا يتجاوز عددهم بعض العشرات على حساب ملايين الفقراء، وعلى ضرب منظومة الفساد، وانتهاج سياسة إغراق البلاد في الديون الأجنبية.
ومن يرى أن عنصر التوازن السياسي والاجتماعي يكمن في الائتلاف الحاكم بين حزبي نداء
وقد أبقت هذه الحال حكومة "الديمقراطية التوافقية" على تلك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الفاسدة نفسها، والتي تشكلت تاريخيًا، واستطاعت التداخل مع الدولة، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من تفقير الفقراء وإثراء الأثرياء، وإعادة إنتاج شروط الأزمة الهيكلية التي تعاني منها تونس. إضافة إلى ذلك كله، لم تكن تجربة "الديمقراطية التوافقية" بين الحزبين الكبيرين ناجحةً على صعيد ترسيخ الديمقراطية، إذ لا معنى للائتلاف الحاكم، في غياب عقلية ديمقراطية يتبنّاها الجميع. وهذا ما يمكن استنتاجه في ظل استغاثة الأحزاب الصغرى من هيمنة الحزبين الكبيرين، واستحواذهما على صنع القرار وسياسة التهميش.