التهجير والتطهير: إحراجات معجمية فوق دمار حلب

62D680BA-84CC-47D6-9350-ABEAD8F8CF26
نجم الدين خلف الله

باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس

30 ديسمبر 2016
9EC827C9-1D5C-46C1-82E9-9EB51A05FAF6
+ الخط -

رافقت معاركَ حلب الأخيرة معركةٌ اصطلاحية، لا تقلُّ عن الأولى ضراوةً، سلاحها الكلمات المستخدمة في الإحالة على وقائع إخراج المدنيين والمسلحين من الأحياء الشرقية. وفي هذا النزاع، بَلغ التناقض أوجَهُ حين غدا نفس المقال يستعمل - أحياناً في ذات الجملة - مفردتَيْن، معنياهما على طرفيْ نقيضٍ تماماً، للدلالة على حدث "الإخراج" هذا.

والشائعُ أنّ ما يفسّر التنازع في اختيار التسمية وانتقاء العبارات هو الثوابت الأيديولوجية والمواقف السياسية الحاكمة في خطاب السلطة وإعلامها، مناكفاً لخطاب المعارضة وإعلامها.

على أنَّ لذاكرة الكلمات وتموّجاتها الدلالية وفروقها البسيطة دوراً ماكراً، تلعبه بمعزلٍ عن اختيارات هذا الفريق أو ذاك: فهي تتدخّل في توجيه المعاني الحافة connotations للمفردات وتؤثر في طرق تلقيها، من دون اعتبار نوايا مستخدميها الأصليين ولا ما يريدونه منها.

بات استكشاف هذا التأثير ورصد أدواته من صميم التحليل اللساني اليوم، لذا فإنه من المهم أن نفهم تنازعات العبارة في توصيف هذا "الخروج التاريخي"، وإلى فهم الدور الذي أدّته أفعال الكلام في الحرب الإعلامية التي باطنت مشاهد الحرب السورية وفظاعاتها.

أوّل ما يلفت النظر هو استخدام سلسلة من المفردات، ذات معانٍ متباعدة، تغطّي حقولاً دلالية شاسعة تشمل كلماتٍ مثل: إخراج، تهجير، إجلاء، إبعاد، ترحيل، مُغادرة، نقل، نزوح، خروج، تطهير، تحرير، إبعاد... وهي أسماءٌ تتراوح دلالتها بين إجلاء قسريّ يهدف إلى إحداث تغيير ديمغرافي في النسيج السكاني لبعض المدن والقرى، مع التلميح إلى استخدام القوة لإجراء ذلك التغيير، وبين حركة انتقالٍ إرادية، يغادر من خلالها السكان منازلهم طوعاً، على أمل العودة إليها من جديد.

وفي انتقاء كلمات هذا الحقل الممتد، تتضارب ثلاث استراتيجياتٍ تستخدمها القوى الفاعلة على أرض الصراع: المعارضة المسلحة، والنظام السوري، والهيئات الإنسانية، المحلية والأممية. ولكلٍّ منها آلته الإعلامية، وكلٌّ يسعى إلى فرض قراءة للحدث عبر تسميته.

فمن جهة، انبنى خطاب المُعارضة المسلحة على انتقاء أكثر هذه العبارات سلبيةً، للإحالة على إخراج المسلحين والمدنيين من الأحياء الشرقية باعتباره "تهجيراً"، كأنما يشيرون، من طرفٍ خفي، إلى مآسي "الترحيل"، الذي عاشته الكثير من الأقليات والجماعات المستضعفة، طيلة القرن العشرين، ولا سيّما أثناء الحربيْن العالميتين، مخاطبين بذلكَ مخيّلةَ القارئ تلميحاً إلى الوحشية الكونية الماثلة في إبعاد الناس عن منازلهم، وتركهم في العراء، حيث الثلج والجوع والتشرّد.

ولا يهدف هذا الانتقاء إلى وصف واقع التهجير فحسب، بل وإلى شَجبه أيضاً، مع التشديد على البعد الجنائي الموصوف، حتى يصوغ ما يمكن أن يرقى إلى إعلان قانوني، يستند إلى مقولات القانون الدولي، يجعل منه "جريمة ضد الإنسانية" بما هي "إ‌بادة وتعذيب وتهجير وإ‌بعاد وا‌ستبعاد وإ‌رهاب وا‌عتقال غير شرعي وا‌ضطهاد، لأ‌سباب سياسية أو دينية أو عرقية، سواء كانت فردية أو جماعية".

وفي المقابل، نشطت آلة النظام السوري الإعلامية في إيجاد مفردات إيجابية تقلب صورة هذا الواقع وتعطيه دلالة وطنية، فقد اعتبرت عمليات الإجلاء "تطهيراً"، تخلّص من خلاله شرق حلب من المسلحين، كما لو كانوا "رجساً" أو ميكروبات قاتلة. لينجز بذلك فعلاً كلامياً يهدف إلى شرعنة النظام في المحافل الدولية باعتباره مَن "طَهَّرَ" أقدم مدينة من "الإرهابيين".

وأما المنظمات الإنسانية، فسعت يائسةً إلى ضربٍ من الحياد الدلالي في اختيار المفردات، حتى تتمكّن من أداء عملها الشاق، فجنحت إلى كلمات: "إجلاء" و"مغادرة"، بما هي إحالةٌ على فعل المرور من منطقةٍ إلى أخرى، دون الإدلاء بأي حكمٍ قيمي عنه.

وما عَقَّدَ صياغة الخطاب لديها، وهي التي تعمل في ظروفٍ قاهرة، هو حصول مغادرة مزدوجة: خروج المدنيين والمسلحين من حلب نحو إدلب، وخروج مدنيي كفريا والفوعة، الموالين للنظام، نحو حلب، فمالت إلى اسم "الإخراج"، تجنّباً للتناقض، وتحاشياً لإثارة حساسيات، تسبّبها بعض الألفاظ.

ثمَّ ازداد حرج هذه المنظمات بخروج مدنيين ومسلحين، مرضى وأصحاء، شباباً وأطفالاً، مما يجعل من التسمية معضلة فعلية فالأمر "إنقاذ" للمصابين و"إجلاء" لهم بغاية المعالجة، و"تخليص" للمدنيين من عناصر متشددة. وهو في الخطاب الديبلوماسي الذي يساندهم: "خروج مشرّف"، بل و"انتصار للثورة" التي ستستمر رغم المغادرة القسرية.

يُظهر هذا التفكيك الأوّلي لمفردات الإجلاء حجم الرهانات والتحدّيات التي تواجه صانعي الخطاب، في المجال السياسي العربي، من إعلاميين ومراقبين وساسة. ومن بينها ضرورة اختيار مفهومٍ تقرأ من خلاله كثافة الحدث، الأمر الذي يظهر مدى المهارة في "الرقص على أفاعي الدلالات"، حين تستفزّهم ذاكرة الكلمات، وتباغتهم آفاق انتظار القراء من جهةٍ، وإملاءات السلطة من جهة ثانية.

فكان منهم هذا التنشيط لحقلٍ دلالي كامل من حقول العربية القديمة وصيغها (انظر مفردات الهجرة والجلاء في لسان العرب لابن منظور ودلالاتها الدينية) بعثاً له حتى يؤدي وظيفته في توجيه دَفَّتَيْ الصراع بين النظام والمعارضة، بين "الموالاة" و"المعاداة".

وانخرطت كل هذه الأطراف في مسار التسمية حتى تثبت مكاسبها، وتفضح خصومها، وتستقطب عدداً أكبر من المناصرين. ولكنَّ الظاهر أنَّ صيغة: "لا غالب ولا مغلوب"، التي هيمنت على مصير النزاع المسلح في المدينة، هي التي فرضت نفسها أيضاً في مشهد سجال الكلمات، فلم يؤدِّ "انتصار" طرفٍ ما إلى تفوّق كلمة على سائر الكلمات، بل ثمة "انتقال" بين المترادفات والمتقابلات والكلمات ذات الفروق الدقيقة، مع شيءٍ من الحَرج، يسبّبه تناقض المشهد وتعقيداته الإقليمية والإنسانية.

يثبت ذلك أنّ هذا السجال السيميولوجي لم ينته بفرض مفهومٍ بعينه، وسيطرته على سائر التأويلات، حتى يكون معنى الحدث واحداً ثابتاً هو ذاك الذي ترتضيه السلطة الغالبة وتعمل على توظيف نتائجه واستثماره.

بل ثمة إجماع على كارثية الخروج أنَّى كانت تسميته، وتوافق على فظاعة آثاره كائناً من كان الطرف المتكلم، حتى لكأنَّ آليات الإخبار والتوصيف تعطلت أمام هول مآسي التشرّد، ولم يعد الوعي المتلقي يعبأ بِاسم الإخراج وطبيعته، قدر اهتمامه بثمنه الإنساني الباهظ. فصارت الخطابات تنتقل بين أحياء حلب المدمرة، وبين ثنايا صورها الفاجعة، تُروِّض المفردات الماكرة وقد فرّت من قواميسها لتشارك تأويل التاريخ.

ذات صلة

الصورة
مكتب نقابة محامي حلب 1972 (العربي الجديد)

سياسة

نتابع في الحلقة الثانية اعتقال أعضاء في نقابات سورية عام 1980 وجهود الإفراج عنهم حيث تم إطلاق سراح المحامين عام 1987 باستثناء ثلاثة منهم
الصورة
سورية: محاولات لإنقاذ طفل عالق في بئر 8 يونيو 2024 (إكس)

مجتمع

أعلنت فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) أنها بدأت عمليات إنقاذ طفل عالق في بئر في قرية تل أعور غربي محافظة إدلب، شمال غربيّ سورية.
الصورة
مدينة أعزاز

سياسة

اهتزت مدينة أعزاز بريف حلب، شمالي سورية، بانفجار سيّارة مفخخة ضربت السوق الرئيسي في المدينة، التي تعتبر معقل المعارضة السورية، منتصف ليلة أمس السبت
الصورة

منوعات

تأسّس MAAD للارتقاء بالصحافة من أجل القضية الفلسطينية. وهو اتحاد يؤجل المنافسة من أجل التعاون في خضم الإبادة الجماعية المستمرة للمدنيين في غزة. 
المساهمون