التنمية في كل عمل

25 ديسمبر 2015

العمل ركيزة أساسية للتنمية

+ الخط -
اعتبر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2015 العمل ركيزة أساسية للتنمية، وحذّر من الدور المضاد للتنمية الذي تنطوي عليه أعمال كثيرة، ما يؤكد أن الصلة بين العمل والتنمية ليست تلقائية، فالتنمية لا تقتصر على زيادة الدخل، بل وتمتد أكثر من تعزيز الحقوق والحريات والقدرات والفرص، وتمكين الناس من العيش حياة صحية طويلة وخلاقة، إلى ضمان كرامة المواطنين وحمايتهم من الانتهاك وانتقاص الحريات، وتهيئة الأطفال للمشاركة الإيجابية والفاعلة في سوق العمل، ثم إدارة تقاعد المواطنين وتأمينه في ظروف لائقة من الدخل والتأمين الصحي والمشاركة الاجتماعية والسياسية.
يتيح العمل، من منظور اقتصادي، كسب الرزق وتحقيق الأمن الاقتصادي، ولكن بمنظور التنمية البشرية يتيح للناس تعزيز قدراتهم من خلال تزويدهم بالمهارات والمعارف المكتسبة، وتحقيق أفضل مستوى للمعيشة، ويمكّنهم من التمتع بخدمات تعليمية وصحية مناسبة. ويوسع العمل خيارات الناس الاقتصادية والاجتماعية، والمشاركة الكاملة في المجتمع، ويمنحهم الشعور بالكرامة، والقدرة على بناء التماسك الاجتماعي ورعاية الآخرين، ويطلق الإمكانات والإبداع والعمل الجماعي وتنمية المجتمعات، ويجعل العمل المجتمعات أكثر عدلاً من خلال توفير الفرص للفقراء للسعي إلى حياة أفضل، وتعزيز بيئة العمل الجوانب الإنسانية في الحياة وتطورها.
ولكن العلاقة بين العمل والتنمية ليست تلقائية، فهناك أعداد كبيرة من الناس تمارس أعمالاً مرهقة ومكررة وخطيرة. وفي ذلك، فإنه نوع من العمل يلحق ضرراً عميقاً ومدمراً لحياة وقدرات وكرامة ناسٍ كثيرين، وهناك الملايين، وبعضهم أطفال، يعملون في ظروف من الاستغلال والإكراه والاستعباد، ويمضون أياماً طويلة في السخرة بلا حقوق ولا كرامة، وبينما يساعد العمل لتحقيق مجتمعات أكثر عدالة، فإنه يمكن أن يؤدي الى الانقسام والاختلافات والنزاعات الواسعة على الفرص، وعدم المساواة.
إن فكرة العمل أوسع وأعمق من الوظائف وفرص العمل التي توفر للإنسان الدخل والكرامة والمشاركة والأمن الاقتصادي، لكنه يمتد إلى أعمال أخرى كثيرة؛ تطوعية أو من غير أجر، مثل خدمة المجتمع والناس والرعاية الأسرية، والعمل الإبداعي مثل التعبير والكتابة والرسم والموسيقى.
ويعرّف التقرير العمل بأنه كل نشاط لا يؤدي فقط إلى إنتاج السلع والخدمات واستهلاكها، لكنه
يمتد إلى الأنشطة التي توسع رفاه الإنسان في الحاضر والمستقبل. ويتضمن العمل أربع مجموعات من الناس: العمال أنفسهم، وكيانات أخرى، مثل أصحاب العمل الذين يقدمون المدخلات التكميلية، ومستهلكو ومنتجو السلع والخدمات والمجتمع والبيئة الطبيعية والأحيال القادمة. ويشمل التعريف بهذا المفهوم العمل بأجر أو بدون أجر، ويشمل، أيضاً، عمل الرعاية الأسرية، مثل الطهو ورعاية الأطفال وتعليمهم والعناية بالمنزل وأفراد العائلة، فهي أنشطة تعود بالرضا والحياة الأفضل على الناس، كما تقلل التكاليف على الأسرة والمجتمع والدولة، ويمكن، ببساطة، تقييم هذا العمل، لو كان يقوم به شخص بأجر (خادم/ة او مدبر/ة منزل أو مربي/ة أطفال أو طاه/ية في مطعم)
ومن قطاعات العمل المنتجة والمهمة في التنمية تطوير قدرات المواطنين في مختلف أعمارهم وفئاتهم، للمشاركة في سوق العمل واكتساب دخل كافٍ لحياة كريمة، وتعظيم العوائد الاقتصادية للأعمال والمواطنين، بمن في ذلك كبار السن والشباب والمعوقون.
ويقابل ذلك اتجاهات في العمل مضادة للتنمية، مثل الأجور المنخفضة والخطورة في العمل وفقدان الأمن الوظيفي، أو المخاطر التي تقع على فئات محددة من السكان، مثل كبار السن والنساء والشباب والأطفال، وسياسات وقوانين التقاعد والتأمين الصحي.
تتجه دول كثيرة إلى تحديد سن 65 للتقاعد، وهذا يتيح للمواطنين البقاء في سوق العمل فترة أطول، لكنه يعني، أيضاً، انخفاض فرص التقاعد بالنسبة لبعضهم، وإجبارهم على البقاء في العمل فترة أطول. وحددت دول سن التقاعد بـ 60 عاماً، وربما يكون الاختيار المناسب لسن التقاعد متفقاً مع متوسط العمر المتوقع.
وفي تقييم سياسات العمل بعلاقته بالتنمية، بما هي توسعة خيارات الناس؛ تتأثر التنمية البشرية بالعمل، من خلال قنوات عدة، مثل الدخل والمعيشة؛ إذ يفترض أن يساعد العمل في تحقيق مستوى معيشي لائق، والأمن بتمكين الناس من التخطيط لحياتهم على المدى الطويل، وإنشاء أولوياتهم وخياراتهم، ومساعدتهم في تشكيل أسرة مستقرة، وتأمين احتياجاتها من التغذية والتعليم والصحة وتحقيق وفورات وادخارات، وتمكين النساء من الاستقلال الاقتصادي، واتخاذ القرارات والمشاركة الاجتماعية في العمل والمجتمعات والمناصب السياسية، واكتساب الثقة والأمن وصنع القرار واكتساب المعلومات والمعارف والمهارات والأفكار الجديدة، والكرامة، والشعور بالإنجاز والرضا وتقدير الذات والهوية الاجتماعية، والإبداع والابتكار، والتعليم المستمر والتدريب والاستدامة.
ويمكن بالعمل تحقيق أهداف أساسية، مثل الصحة والحياة الأطول، والمعرفة والمهارات والتعليم الأفضل، والارتقاء في المؤسسات والمجتمع، والوعي العام والمشاركة ورفع مستوى كفاءة المنتجات وقدرتها التنافسية، كما يطور العمل قطاع المشاركة التطوعية ما يمكّن الناس من العمل للصالح العام، ويطور أداء المنظمات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني وتأثيرها، والتضامن مع الحقوق والقضايا الإنسانية المحلية والدولية، أو يرتقي بالعمل والنشاط الإبداعي والثقافي والفني للأفراد والمجتمعات.
ليس العمل الإبداعي فقط إرضاء للذات، لكنه يؤدي إلى منح السعادة والسرور والرضا للآخرين، ما يجعل العمل الثقافي والفني جزءاً من الصالح العام، ومازالت الأعمال الموسيقية والفنية الخالدة تلهم الأفراد والمجتمعات، وتساهم في بناء جسور من العلاقات والتفاهم بين الحضارات والمجتمعات.

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"