عبقرية جورج حنين لا تتجلى فقط في نصوصه الشعرية، بل أيضاً في نصوص سردية ونقدية يصعب إحصاؤها وما زالت بمعظمها مجهولة من القارئ العربي. عبقرية بتجليات مختلفة إذاً، لكنها تتابع رسالة واحدة. ففي جميع نصوصه، يسيّر حنين شعرية خاصة نابعة من حسه الإنساني الكبير وسخريته القارصة ووفائه الثابت لمبادئ طليعية نبيلة. نصوصٌ يوحّدها هاجس ابتكار لا يخشى نتائج تجاوُز الواقع أو الدعابة أو القسوة، بل الجمود والتحجّر.
على المستوى الشعري، أصدر حنين دواوين ثلاثة هي: "تنبيه من القذارة" (1935) و"عبثية الوجود" (1938) و"المتنافر" (1949)، تبعها ديوانان بعد وفاته: "الإشارة الأكثر غموضاً" (1977) و"القدرة على التحية" (1978). لكن إنتاجه الشعري لا يقتصر على هذه الدواوين. فقد نشر قصائد متفرّقة كثيرة في مجلات مصرية أو فرنسية، إلى جانب تلك التي كتبها لمارتا القايم وبقيت مجهولة حتى عام 1999، حين اكتشفها الكاتب الفرنسي جان شارل بلان بالصدفة وأدرجها في كتاب "فاماديهانا".
وتتميز جميع هذه النصوص بنبراتٍ مختلفة وفقاً للمرحلة التي تنتمي إليها. فالقصائد الـ 23 الأولى (1935 ـ 1942) تتحلى بصبغة سياسية وحدّة كبيرة وقدرة عالية على العنف والمُناظرة. وفي القصائد الـ 130 اللاحقة (1945 ـ 1965)، تتراجع الحدّة لصالح شعرية سورّيالية مشبعة بالقلق، علماً أن العنف في التعبير يبقى حتى النهاية ميزة أساسية في كتابة حنين الشعرية.
وتفتح هذه النصوص سدود لاوعي القارئ لوضعها إياه وجهاً لوجه مع واقع محوَّل يتكاثر فيه الوصف المبلبِل لمشاهد مدينية محيّرة وغير محدّدة المعالم وعدائية، يتسلّط عليها الفراغ والمرور الخاطف للزمن. وفي هذا السياق، نتجوّل داخل أحياء في طور التواري أو في حالة خراب، ونزور منازل من رماد لا مجال فيها إلا "للعيش مرغمين داخل تسقيفة حيث كل شيء يتداعى".
وفتْح سدود الخيال يعني لحنين أيضاً تحرير الرغبة التي يعتبرها المحرّك الوحيد للعالم. ويتجسّد ذلك في قصائده على شكل إيروسية قوية وتدفُّق غرائز جنسية وتواتر لموضوع الحب. لكن الغريب في هذه النصوص هو انحسار وصف المرأة وعدم تعرّف القارئ أبداً إلى وجهها، فتظهر ككائن شهواني يشعل المخيّلة من خلال عدد محدود من الإشارات السريعة والكثيفة لبعض جوانب جسدها.
وهذا ما يجعلنا نرى فيها استعارة لآخرٍ بعيد أو لمطلقٍ، وإن بقي حنين متنبّهاً لاحتمال تجلّي وجه الحب الذي يتحدّث عنه بعبارات متناقضة. فمع أنه يبدو أحياناً قادراً على إلغاء بعض الوقائع الضارّة للمدينة، بالسعادة والامتلاء الناتجين عنه، لكن العلاقة الغرامية تبدو مصبوغة بالتباس وذات جانب تدميري لاستحالة ديمومتها.
من ناحية أخرى، يشحن حنين معظم قصائده ببُعدٍ سياسي فيصوّر "بلداً مفتوحاً على الجزء الهالك من المصائر"، ويقترح أماكن طوباوية لا أهمية للنظام فيها، مدنها بلا أسماء ودائماً غريبة، وجُزُرها مغلقة على ذاتها بإحكام.
وعلى مستوى الأسلوب، لجأ الشاعر إلى طُرُق كتابية مختلفة للتشكيك بشكل ثابت بالقواعد الاجتماعية وإثارة الدهشة لدى قارئه، كالتلاعب بالكلمات وبتعدُّد معانيها، وقلب الكليشيهات بطرافة فريدة، وتسيير صور هلسية صاعقة ـ بتضارب عناصرها ـ بقدر ما هي مرايا هشّة للكائنات.
وإلى جانب الشعر، كتب حنين نصوصاً نثرية غزيرة، بعضها صدر في ديوانَي "زمن طفلة صغيرة" (1947) و "العتبة المحرّمة" (1956). وإذ يصعب تصنيف هذه النصوص ضمن نوع أدبي محدد، لكن جزءاً مهماً منها يلامس النوع السردي الذي بدأ الشاعر في ممارسته عام 1934، ثم عاد إليه انطلاقاً من عام 1939 ضمن مرحلة إبداع مثمرة دامت طوال الحرب العالمية الثانية واستمرت، وإن بوتيرة أبطأ، حتى عام 1965.
وعلى رغم أسلوبها الجميل والمقتضب، تحيّرنا هذه النصوص لابتعادها عن نوع الأقصوصة وغموض معناها أحياناً. إذ تبدو وكأنها تسجّل طريقة حضورٍ مثالية لكاتبها؛ حضور منسوج بالغياب. وهي الطريقة التي عاش حنين بها طوال حياته، أي البقاء من الجهة الأخرى "للعتبة المحرّمة".
وتصدّ هذه النصوص القارئ المتعطش للأسلوب الروائي وتتميّز بنبراتٍ وأساليب متنوعة؛ يرتفع صوت الشاعر بقوة داخلها للهزء من الطبقة البورجوازية التي كان ينتمي إليها، قبل أن ينضج خلال سنوات الحرب فيتجاوز طوباوياته ويعبّر عن تخيّلات رائعة ومؤلمة معاً.
ويسيّر حنين في هذه النصوص فكرتين رئيستين متضاربتين: أبدية أضحت محسوسة وخضوع الحياة للموت، من خلال شخصيات تبدو ضحية قدرٍ عدائي، وبالتالي في حالة جمود مُخزية أو ـ في أفضل الأحوال ـ في وضعية المراقب الذي ينتظر بقلق حدثاً يُغيّر حياته الفارغة. وبدلاً من مسايرة القارئ الذي ينتظر تطوراً في سير الأحداث للاستراحة داخل عملية السرد، يوجّهه حنين نحو الأسئلة القارصة التي تطرحها نصوصه، ونحو الغموض في معناها وشكلها.
وتبدو هذه الصعوبة في التآلف مع شخصياتٍ وعالمٍ في حالة هروبٍ وزوالٍ دائمين، ناجمة عن فن سردي يعاكس الأعراف، ويتم فيه تجنّب الوصف وتسلسل الوقائع، وتسقط فيه حاجة القصة المسرودة لبداية. فنٌ مقتضَب مهمته التعبير عن حقائق بسيطة لكن ذات وقع دلالي خطير.
أما مقالات حنين النقدية فبدأ في تحريرها خلال فترة الثلاثينات مركّزاً فيها على التيارات المعاصرة، موضوع شغفه الرئيس. وقد مارس في مقالاته الأولى النقد بمهارة كبيرة نابعة من انفتاحه على السورّيالية طبعاً، وأيضاً على موسيقى الجاز والسينما الحديثة والروائيين الجدد. ومنحت ثقافته الواسعة بآفاقها ولغاتها هذه المقالات نكهة خاصة هي مزيج من "كوزموبوليتية" منجَزة ولونٍ محلّي لاذع.
وخلال قيادته مجموعة "فن وحرية"، كتب حنين نصوصاً نارية، تشكّل بطبيعتها امتداداً للتجارب التي قام بها قبله ألفرد جاري ورونيه كروفِل ولوتريامون. نصوصٌ يتبيّن فيها حدس الشاعر المذهل وعلو نظرته وقدراته الكبيرة على المجادلة من موقعٍ مستقل وعلى توحيد التأمل السياسي والشعرية القارصة.
ولأن عمليتَي الدفاع والتدمير اللتين واظب عليهما في مقالاته تتطلبان من اللغة درجة عالية من الفعالية، استخدم حنين لخطّ نصوصه اللغتين الفرنسية والعربية، علماً أنه كان يجيد أيضاً الإيطالية والإنكليزية.
وتبدو هذه المقالات القصيرة سهلة القراءة ومعبّرة بشكل رهيب، تُمسك بزمنها وتشكّل في الوقت ذاته فرصة للشاعر للإفلات من ظرفه ومنحنا فضيلة نقدية مستقلة عن رهاناتها المحلية.
وفي الفترة الأخيرة من حياته التي أمضاها في باريس، طوّر حنين هذه الممارسة فابتكر أسلوباً شعرياً تماثلياً لاذعاً ومباغتاً قارب فيه المواضيع الراهنة كاستعارات، والنجوم الفنية كأساطير زائلة، والصورة الشعرية كنضالٍ اجتماعي، والسياسة الدولية كمسرحٍ عبثي أو كجدلٍ خطابي عقيم.