اللوحة التي اشتراها بن سلمان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، مقابل مبلغ خيالي هو 450 مليون دولار مفقودة اليوم، فلم تعرض في متحف اللوفر في أبو ظبي كما كان متوقعاً، من دون أي توضيحات من المتحف، ومصيرها حتى الساعة مجهول. فما الشكوك التي تحوم حول عملية شراء اللوحة؟ ولماذا طالب المحقق الخاص في التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية 2016، روبرت مولر، التحقيق مع الملياردير الروسي ديمتري ريبولوفليف، الذي باع اللوحة لبن سلمان في المزاد العلني، وحقق من عملية البيع هذه أرباحاً قاربت 280 مليون دولار؟ وهل ذهب جزء من أرباح هذه اللوحة من حساب ريبولوفليف إلى حساب شركة إسرائيلية، لتمويل عملها في نشر الأخبار الكاذبة التي تؤثر على الرأي العام وترجّح فوز ترامب؟
التحقيق الذي كتبه الصحافي زيف شاليف لم يكن حاسماً، لكنّه فتح الباب أمام مجموعة كبيرة من الأسئلة المشروعة والمنطقية، وذلك من خلال ربط الأحداث منذ انطلاق حملة دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، ثم فوزه، ثم بيع اللوحة، وبين هذه الأحداث الثلاثة، اجتماعات سياسية كثيرة.
لكن قبل الدخول في التفاصيل السياسية وتسلسل الأحادث التي تتبّعها كاتب التحقيق، نبدأ بالأسئلة المحيطة باللوحة، وتاريخها.
نبذة عن اللوحة: هل هي تحفة فنية أم احتيال؟
تصور اللوحة التي يعني اسمها "مخلص العالم" السيد المسيح رافعاً يده اليمنى، حاملاً بيسراه كرة زجاجية يعلوها صليب، وتعزى أهمية ظهورها من جديد عام 2011 إلى قلة إنتاج ليوناردو دافنشي الفني، إذ لم يرسم سوى 20 لوحة عظيمة طيلة حياته، بالإضافة لكونها لوحة لفنان مهم للغاية، رسم شخصية مهمة بدورها للغاية.
وكانت اللوحة موثقة ضمن مجموعة تشارلز الأول، ملك بريطانيا قبل إعدامه عام 1649، ثم انتقلت من يد إلى أخرى، حتى بيعت في النهاية في مزاد سوثبيز عام 1958 بمبلغ 45 جنيهاً فقط، قبل أن تضيع بشكل غامض خلال نصف القرن الماضي، من دون أن يعلم أحد عنها شيئاً.
وبيعت اللوحة في مزاد علني عام 2005، مقابل أقل من 10 آلاف دولار، للتاجرين روبرت سيمون وألكسندر باريش، وكانت في حالة يرثى لها، واستغرق الأمر 6 أعوام كاملة من الأبحاث والتحقيقات المضنية، لإقناع المجتمع الفني بالاعتراف بها كتحفة دافنشي المفقودة، ثم عرضها في المتحف الوطني بلندن عام 2011، وفي دار كريستيز للمزادات بنيويورك عام 2017.
وسارع العديد من جامعي اللوحات الفنية للحصول على "سلفاتور موندي"، على الرغم من تشكيك كثيرين في أصالتها، إذ زعم البعض أنه رسمها أحد تلامذة دافنشي، في حين سلط آخرون الضوء على عمليات الترميم التي خضعت لها، والتي قيل إنها حجبت جودة الوجه في اللوحة الأصلية، وأخفت لمسة دافنشي النقية بشكل جزئي.
لكن النقاش حول أصالة اللوحة يختفي، مع الدخول في إمكانية تحوّل عملية بيع وشراء اللوحة إلى غطاء سياسي، لتورّط روسي في الانتخابات الأميركية. بداية هذا النقاش الدقيق، من الملياردير الروسي ديمتري ريبولوفليف.
ديمتري ريبولوفليف: بين ترامب وبوتين ودافنشي
عام 2013 اشترى اللوحة المستشار الفني السويسري إيف بوفييه مقابل 80 مليون دولار، ثم حصل عليها الملياردير الروسي ديمتري ريبولوفليف مقابل 127 مليون دولار. فمن هو ريبولوفليف؟
صنع ثروته من العمل في مناجم البوتاس، قبل أن يرسله الكرملين إلى "منفى ودي"، ويبدأ حياة باذخة في موناكو، حيث افتتح متجراً واشترى مباني في أماكن شهيرة، كما اشترى فريق AC Monaco لكرة القدم، بالإضافة إلى 10 بالمئة من أسهم بنك قبرص.
ويعتبر ريبولوفليف حليفاً مقرباً للغاية من الرئيس الروسي بوتين، ويحتل عنده مكانة مشابهة لرجل الأعمال الروسي السيئ السمعة أوليغ ديريباسكا. كما أن صحيفة "دير شبيغل" الألمانية كشفت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أنه يدير أموال وأصول نائب رئيس الحكومة الروسي يوري تروتنيف.
والأهم أن ريبولوفليف التقى دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية عام 2016، وعلى الرغم من إنكار الرجلين لذلك، إلا أن أجهزة الرادار تثبت تزامن هبوط طائرتيهما في مدرجي المطار في كارولينا الشمالية، أثناء الأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات، كما ذكرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، في مقال نشر عام 2017. وجاء في المقال أيضاً، أن يخت ريبولوفليف كان موجوداً في دوبروفنيك الكرواتية، في أغسطس/ آب 2016، في نفس الأسبوع الذي كانت فيه إيفانكا ابنة دونالد ترامب، وزوجها جاريد كوشنر موجودين هناك في إجازة.
العلاقة بين ريبولوفليف وترامب خرجت إلى العلن بشكل غامض عام 2008 عندما اشترى رجل الأعمال الروسي، منزل دونالد ترامب في فلوريدا الأميركية عام 2008 بمبلغ قياسي هو 95 مليون دولار، على الرغم من أن ترامب اشتراه عام 2004 بمبلغ 41 مليون دولار.
وقد أثارت عملية البيع هذه انتباه سياسيين أميركيين بعد وصول ترامب إلى الرئاسة، ما جعل روبرت مولر، يضمّ عملية البيع هذه إلى تحقيقاته في التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية سنة 2016.
كيف دخلت إذاً السعودية والإمارات على الخطّ، وما علاقة لوحة "مخلص العالم" التي اشتراها بن سلمان، بكل هذه العلاقات المالية والسياسية المعقدة؟ دخلت السعودية والإمارات على الخط في صيف 2016.
الاجتماع السرّي: السعودية والإمارات... ترامب وإسرائيل
في بداية صيف 2016، رتب إريك دين برنس، المرتزق الشهير بتأسيس "بلاك ووتر"، أكبر مؤسسة عسكرية خاصة في العالم، اجتماعاً في فندق قرب "برج ترامب"، ضمّ كلاً من جورج نادر، رجل أعمال لبناني أميركي، كان يعمل مبعوثاً لكل من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، ورافقه جويل زامل، رجل الأعمال الإسرائيلي المولود في أستراليا، مؤسس مجموعة Psy-Group، والشهير بخبرته في التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي. توجّه هؤلاء الثلاثة إلى الطابق 26 من "برج ترامب" حيث كان دونالد ترامب جونيور (نجل ترامب) بانتظارهم في قاعة المؤتمرات، مع ستيفن ميلر، المستشار السياسي لدونالد ترامب، وفق ما ذكرت "نيويورك تايمز" الأميركية.
في الاجتماع أكد نادر لنجل ترامب، بحسب الصحيفة، أن الأمراء السعوديين والإماراتيين مستعدون لدعم والده للفوز في الانتخابات، وأنّ وليي العهد الاثنين سيموّلان خطة بقيمة ملايين الدولارات، وضعها زامل للمساعدة في انتخاب ترامب، كما أشار إلى أن مجموعة Psy-Group نجحت بتزييف الأخبار على الإنترنت، من خلال شبكة مكونة من 5000 حساب مزيف على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحويل الرأي العام لصالح ترامب.
وأوضحت صحيفة "نيويورك تايمز" أن نجل ترامب وافق على العرض، وأن ذلك لم يكن مستغرباً، في حين ادعى هو لاحقاً أنه رفضه، ولا توجد عقود أو فواتير لإثبات تنفيذ الخطة.
غياب الأدلّة هل ينفي الحقائق؟
في شهادته أمام لجنة التحقيق، أكد جورج نادر أن شركة Psy-Group تقاضت مبلع 2 مليون دولار مقابل عملها مع حملة ترامب. وقد أرسلت لجنة مولر محققين إلى مقر الشركة في فلسطين المحتلة (رغم أنها مسجلة في قبرص)، وطالبت بكشف عن حساباتها في قبرص. ليتبيّن أن الشركة لها شركات شقيقة يملكها أثرياء روس. وقد كشف موقع "بلومبيرغ"، أن الشركة أبلغت الموظفين بتل أبيب أنها ستقفل أبوابها، غداة التحقيق مع مسؤولين فيها في شهر فبراير/شباط الماضي.
الشركة نفسها لا تزال تنفي حتى الساعة تقاضيها أي مبلغ، أو حتى عملها لصالح حملة ترامب. لكن كل الأدلة تشير إلى ضلوعها في الترويج لأخبار كاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً أنها بعد فوز ترامب، أعلنت أنها تخطط لمشروع مشترك مع شركة كامبريدك اناليتيكا التي كانت تعمل لصالح حملة ترامب.
إذاً للشركة ارتباطات روسية وثيقة، وبات من شبه المؤكد أنها شاركت في حملة ترامب الانتخابية. لكن كيف تقاضت كل المبالغ التي وصلتها بشكل سرّي وغير معلن؟ حساب الشركة في بنك قبرص، الذي يملك 10 بالمئة من أسهمه ديمتري ريبولوفليف صاحب لوحة ليوناردو دافنشي، والذي حقق ما يقارب 280 مليون دولار من الأرباح الصافية نتيجة بيعها لمحمد بن سلمان. يشير موقع "ناراتيف"، إلى أن ريبولوفليف بإمكانه بكل سهولة أن يحوّل أيّ مبلغ إلى حساب "بسي ـ غروب" من دون أي مساءلة. ومن ثم، فإن جزءاً من الأرباح التي حققها من اللوحة قد يكون ذهب للشركة الإسرائيلية عبر رجل الأعمال الروسي، مقابل عملها "السرّي" في الحملة الانتخابية الأميركية، وترجيح فوز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون.
فهل كان الاجتماع الشهير في صيف 2016 مع نجل دونالد ترامب، وتأكيد جورج نادر أنّ بن سلمان وبن زايد مستعدان لتمويل خطة PSY - GROUP لتأمين فوز ترامب، المدخل لشراء اللوحة؟