التكاليف الصحية... إلى أين؟

24 يناير 2019
سيشهد القطاع الصحي طفرة في المرحلة المقبلة (Getty)
+ الخط -
قطاع الصحة في الوطن العربي مقبل بالتدريج على تغييرات كبيرة. وسوف نشهد ظواهر جديدة سوف تغير "البروفايل" الطبي، بوصفه صناعة وسياحة وخدمة أساسية في الوطن العربي، بل وحتى في العالم، فالعلاج الطبي وصناعة الأدوية شكّلا، حتى خمسة أعوام خَلَت، مدخلاً أساسياً لبعض الدول، من أجل تعزيز دخلها من هذا القطاع.

والأردن الذي وصلت فيه أرباح الخدمات والصناعات العلاجية  إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار في العام، بدأت تتراجع، بفعل تطور هذه الخدمات في منطقة الخليج، وكذلك بفعل التنافس من دولٍ أخرى في المنطقة، مثل تركيا، ولأن الزبائن من السودان والجزائر وليبيا واليمن والعراق فقدوا ميزة البحث عن علاجٍ خارج دولهم، بسبب الحروب  أو التراجع الاقتصادي فيها.

للقرارات التي بُدئ باتخاذها في بعض دول الخليج مساس مباشر بذلك، فالاعتماد في الخدمات الصحية للمواطنين خصوصا على الموازنة العامة مكلف.

وُيقدر أن نصف النفقات التي تتحملها الدول العربية على التأمين الصحي تذهب هباء، إما بسبب المبالغة في الأدوية، أو بسبب التحايل من المرضى ومقدمي العلاج.

وقد بدأت دول الخليج التي ترسل مرضى للعلاج في الخارج بمنع ذلك، ورأت أن من المجدي لها أن تستفيد من المرافق الصحية المحلية بتعيين أطباء وممرضين ومساعدين من الخارج، وتخفيف نفقات السفر والإقامة التي يتكبدها المريض ومرافقوه.

أما الإنفاق الكلي في الوطن العربي (منطقة المينا MENA) على العلاج في القطاعين العام والخاص، ومن شركات التأمين، وبما في ذلك كلفة النفقات الإدارية على هذا العلاج، فقد وصلت إلى 144 مليار دولار في عام 2017، منها 76.1 في دول الخليج.

وبحسب التوقعات، فإن إنفاق دول الخليج التي لا يشكل مجموع سكانها سوى 13% من مجموع سكان "المينا" سيرتفع إلى أكثر من مائة مليار دولار عام 2022.

ويعود السبب في ارتفاع كلف العلاج في الخليج إلى الإنفاق الحكومي الكبير على هذا القطاع، وإلى ارتفاع تكاليف الأدوية التي تقارن أسعار الأدوية المصروفة بأمر الطبيب، والتي تضاهي أسعار الأدوية المصروفة بأمر الطبيب في الولايات المتحدة وربما أكثر.

وفي دراسةٍ أجريت على أسعار الأدوية المصروفة بحسب إرشادات الأطباء، تبين أنها في المعدل تزيد بنسبة 70% عن أسعار القائمة نفسها في دول العالم. ويدلّ على ذلك رقم قياسي للأدوية اسمه "آي بي آي" (IPI)، أو السعر القياسي العالمي.

ولذلك دعا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2018، في خطابٍ ألقاه في وزارة الصحة الأميركية، إلى تبنّي الرقم القياسي الدولي سعرا للأدوية من القائمة "B2" من الأدوية الموصوفة بروشيتة طبية. وهذه الأدوية هي التي لا يستطيع المريض استخدامها بنفسه، بل لا بد من مساعدة طبيبٍ أو ممرّضٍ في ذلك.

وعلى العموم، يصل حجم مبيعات شركات الأدوية في العام 2018 إلى حوالي 1.4 تريليون دولار، بينما بلغ في العام 2014 حوالي تريليون دولار، أو ما يساوي تقريباً 1.4% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لكل الدول.

وتعتبر هذه الصناعة كبيرة، ومنظمّة، وتصرّفها مثل "كارتيل"، بل إن كتّابا ذهبوا إلى أبعد من ذلك بكثير، ووصفوا شركات الأدوية بأنها تتصرّف كعصابات المخدرات الدولية المنظمة، بينما قال آخرون إن لشركات أدوية عالمية كثيرة ارتباطات بعصابات المخدّرات، لأن كثيرا من هذه يدخل في صناعة الأدوية.

ومن الواضح الآن أن هذا القطاع سيشهد طفرة في السنوات المقبلة، إذا كان للوطن العربي أن ينعم بالهدوء والاستقرار، فهنالك جيل كامل من الشباب والفتيات في بلدان عربية كثيرة لم يعْرف إلّا الحروب والقتال في حياته، بل وعاش معظم سنيّ عمره في حالة "التروما"، أو الصدمة من هول ما عاناه وكابده.

ويعاني هؤلاء من أمراض نفسية، تتوجب تأهيلهم وإعادة دمجهم في الحياة. وعدد اللاجئين في الوطن العربي يفوق حالياً عشرين مليوناً، عدا الفلسطينيين، وعدد الذين يعيشون خارج مدنهم التي تربوا فيها يقدر بعشرين مليوناً كذلك.

أما الجرحى والمعوقون، والفقراء والهزالى، وضعفاء البنية، والمصابون بأمراض تنفسّية، أو كلوية، أو معوية، أو حساسية، فحدّث ولا حرج، ولذلك، سيصبح الطلب على الخدمات الطبية والعلاجية والتأهيلية، نفسياً أو حركياً، أو السلوكية (الإدمان على الخمر والمخدّرات) كبيراً جداً.

ونحن العرب أمام واحدٍ من خيارين: إما أن يسعى كل بلد عربي إلى الاستقلال بخدماته الصحية، والاعتماد على موارده، وهذه ستنطوي على كلفٍ كبيرة، أو أن يكون هنالك اتفاق عربي شامل على ضرورة توحيد مرجعيات نوعية الخدمات الطبية، ومستواها، وكلفها، وأسعار الأدوية فيها، من أجل فتح المجال أمام أصحاب الأعمال الذين يؤمنون عمالهم صحياً، وأمام الحكومات، فرصا لاختيار المكان الأنسب لتلقي مواطنيهم العلاج فيه.

ولا بد كذلك من أن يقبل الأطباء بضرورة وضع قوانين للتأمين ضد الأخطاء الطبية، مع الحرص على أن لا تتحول هذه القوانين إلى وسائل كسب غير مشروع، أو أن تغري بعض المحامين في الوطن العربي ليصبحوا راكضين خلف سيارات الإسعاف. ولكن لا يزال الإهمال الطبي في دولٍ عربيةٍ كثيرة مسبباً لمآس بدون حسيب ولا رقيب.

وأخيراً، لا بد من إنشاء شركات تأمين صحي كبرى على مستوى الوطن العربي، وأن تُمكّن هذه الشركات من فتح فروع لها في الدول العربية، أو أن تتحالف مع شركاتٍ محليةٍ تطبق منهجيتها، وحيث إن لهذه الشركات مقدرة على تقليص كلف العلاج، ومنع المبالغة في الفحوصات الطبية وصرف الأدوية، وتحديد النفقات السريرية والفندقية للمستشفيات، فإن كلف العلاج في الوطن العربي قد تشهد تراجعاً مفيداً في حجم فواتيرها الباهظة.
المساهمون