التقارب العربي مع النظام السوري والتنافس الأميركي-الروسي

21 مارس 2020
لدى نصف الدول العربية تمثيل دبلوماسي بدمشق(ماهر المونس/فرانس برس)
+ الخط -


على وقع الاشتباك الروسي-التركي في سورية خلال الأسابيع الماضية، كان صمت جامعة الدول العربية مدوياً حيال ما يجري في إدلب، ما يعكس ليس فقط المسار الانحداري لهذا الدور العربي، منذ العام 2014، بل محاولة ضمنية للعودة إلى لعب دور ما في سورية عبر الرهان على روسيا لتحجيم النفوذ التركي. لكن غياب أي رؤية عربية لما يجري في سورية، والعوامل الاستراتيجية الإقليمية، والخلافات العربية المزمنة، تجعل فرص هذا الرهان محدودة.

بعد محاولات جامعة الدول العربية إخراج سورية من نفق الحرب الأهلية عامي 2011-2012، تبلورت عوامل رئيسية مهدت لتراجع النفوذ العربي، لا سيما صعود تنظيم "داعش" في العام 2014، وتوسع التدخل الدولي في سورية والخلافات العربية حول صعود دور الإسلاميين. ومع إغلاق الجبهتين الشمالية والجنوبية في الحرب السورية عام 2017، تبدد النفوذ العربي بشكل كامل. التوسع الجغرافي لمناطق سيطرة النظام السوري فرض على الأنظمة العربية الاكتفاء بالمراقبة، أو الاختيار بين مقاربة من اثنتين: المقاربة الروسية التي تشجع على الانخراط مع دمشق، والمقاربة الأميركية التي تفرض عقوبات على النظام وتحظر التعامل معه.
ضمن هذه المظلة الدولية، هناك ثلاثة دوافع تُحرك مواقف الدول العربية المؤيدة لعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية. أولاً، عدم ثقة تجاه الإسلاميين في بلادهم، وذلك يشمل مصر والجزائر والإمارات وفلسطين. ثانياً، العوامل المؤثرة في السياسة الخارجية، مثلما هو الحال مع النفوذ الإيراني في لبنان والعراق. وثالثاً، حافز إضعاف النفوذ الإيراني عبر إبعاد دمشق عن طهران، وهي مقاربة تدعمها كل من السعودية والبحرين.

شهد عام 2018 أول محاولة لإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، عبر مبادرة روسية تضمّنت دفع مسارات الحل السياسي وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين. البداية كانت مع إعادة فتح معبر نصيب على الحدود السورية-الأردنية في أكتوبر/تشرين الأول 2018، في محاولة لتسويق فكرة إنعاش الاقتصاديات الإقليمية عبر إعادة ربط سورية بدول الجوار. بعض الدول الخليجية رأت حينها في المبادرة الروسية فرصة لحجز مقعد على طاولة الحل السوري، لكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب رمت بثقلها لإجهاض هذه المبادرة، عبر الضغط على الدول الخليجية لعدم الانخراط مع دمشق، كما عبر فرض عقوبات متتالية على التدخلات الروسية والإيرانية في سورية.

هذا الضغط الأميركي نجح حينها في فرملة الانفتاح الخليجي والعربي على دمشق. وفي عام 2019 دخلت السعودية على خط التعاون مع إدارة ترامب في شمال سورية، وحتى كان هناك كلام، بلا أفق، عن تشكيل ما وصف بـ"ناتو عربي". وكانت زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان إلى شمال سورية، في يونيو/حزيران 2019، مؤشراً في هذا السياق، بحيث اجتمع مع قيادات "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) في رسالة واضحة إلى أنقرة.

لكن هذا الضغط الأميركي لم يمنع تطبيع الدول العربية الضمني مع النظام السوري خلال العامين الأخيرين، فأعيد فتح السفارتين الإماراتية والبحرينية في دمشق نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018، كما استأنفت الكثير من الدول العربية رحلاتها الجوية مع سورية، ولدى أكثر من نصف الدول العربية نوع من التمثيل الدبلوماسي في دمشق، أو خطوط تواصل مع النظام السوري. الكويت والأردن لديهما علاقة متوازنة مع تركيا استناداً لمواقف متقاطعة من سياسات ترامب حيال القضية الفلسطينية. الحركة على معبر نصيب بقيت مجمّدة بعد إعادة فتحه، فيما يسعى الأردن، مثل الكثير من الدول العربية، إلى إيجاد توازن في التعامل مع السياسات الأميركية والروسية. في لبنان والعراق هناك محاولة تأقلم مع الضغوط الأميركية-الإيرانية، ورغبة بالانخراط مع دمشق إذا لم تتخذ واشنطن إجراءات عقابية ضدهما. دول المغرب العربي لديها هواجس حول التدخل الأجنبي في ليبيا، لكنها تفضل تفادي المواجهة السياسية في الملف السوري. فيما تبقى السعودية مع حلفائها المعسكر الأكثر نفوذاً في جامعة الدول العربية.



تجدد التنافس الأميركي-الروسي

تجددت في الأشهر الأخيرة مساعي موسكو لإقناع دول الخليج بدعم موقفها في سورية، بعد أول محاولة دبلوماسية لم يحالفها الحظ عام 2018. هذا المسعى الروسي فرضته دينامية جديدة في الصراع السوري، بدأت منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين أعطى ترامب ضوءاً أخضر ضمنياً للتوغل التركي، ما أدى إلى ترتيبات دولية وإقليمية في الشمال السوري، وإلى احتكاكات عسكرية أميركية-روسية في مناطق النفوذ المشتركة. كما بدأ اشتباك روسي-تركي في إدلب قبل أن يتوسع إلى ليبيا. كلها عوامل دفعت موسكو إلى التقارب مع خصوم أنقرة الإقليميين، أي الرياض وأبو ظبي والقاهرة التي لعبت دوراً في تحريك الجامعة العربية لإدانة تحركات تركيا في سورية وليبيا.

انعكس هذا التقارب خلال زيارة مدير الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين إلى أبو ظبي في 12 فبراير/شباط الماضي، ما فتح الطريق أمام تواصل مباشر بين النظام السوري واللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، الذي زار دمشق سراً قبل اتخاذ قرار إعادة فتح السفارة الليبية في سورية في 3 مارس/آذار الماضي. هذا التقارب جعل النظام السوري أقرب إلى هذا التحالف العربي، على الرغم من أن السعودية لا تزال مترددة في الانخراط بشكل علني بأي تواصل مباشر مع دمشق. لكن الرياض ترسل مؤشرات في هذا الاتجاه، لا سيما بعد دعوة مندوب سورية الدائم في الأمم المتحدة بشار الجعفري إلى حفل خاص في نيويورك على شرف وزير الدولة السعودي فهد بن عبدالله المبارك في يناير/كانون الثاني الماضي.

كما هناك مؤشرات أخرى لتحرك عربي تجاه النظام السوري ظهرت في الفترة الأخيرة. الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، صرح لقناة "آر تي" الروسية الشهر الماضي، بوجوب عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية. وفي 2 مارس/آذار الماضي زار وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني رمزي مشرفية دمشق ليناقش أولوية لبنانية، هي مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وكانت بعدها بثلاثة أيام أول زيارة لوزير الصناعة والتجارة الأردني طارق الحموري إلى دمشق، منذ إعادة فتح معبر نصيب لبحث أولوية أردنية هي تفعيل التبادل التجاري بين البلدين.

وبالتزامن مع إدانة التحركات التركية عبر الجامعة العربية، تحركت السعودية لتقليص نفوذ تركيا داخل المعارضة السورية، عبر استضافة اجتماع في الرياض، بحضور منصتي موسكو والقاهرة، أدى إلى اختيار هادي البحرة لمنصب الرئيس المشترك للجنة الدستورية التي ستتفاوض مع النظام السوري، ما يعني تعزيز وجود معسكر مؤيد للرياض في مواجهة المعسكر المؤيد لأنقرة داخل المعارضة السورية. هذا التقارب الروسي-السعودي في ملف الحل السياسي في سورية يعكس أيضاً تحفظ موسكو على تردد أنقرة في الضغط على المعارضة السورية لتقديم تنازلات.

مقابل هذا التقارب الروسي-السعودي، تضغط واشنطن عبر إقرار "قانون قيصر" نهاية العام الماضي، بحيث أصبح أداة يمكن لإدارة ترامب استخدامها لإقرار عقوبات مالية إضافية على المؤسسات والأفراد الذين يتعاملون مع النظام السوري. لكن اللقاء الذي جمع محافظ ريف دمشق علاء إبراهيم مع مسؤولين في السفارة الإماراتية، الشهر الماضي، قد يكون مؤشراً كيف يمكن لبعض الدول العربية أن تساعد روسيا على تخفيف وطأة العقوبات الأميركية على النظام السوري. كما تحرص إدارة ترامب على التواصل دورياً مع السعودية حول الملف السوري كي لا تندفع بعيداً في تقاربها مع روسيا. لكن قد يكون من الصعب على واشنطن الموازنة بين مصالح الرياض وأنقرة المتناقضة. في مهمة تكاد تكون شبه مستحيلة، تريد إدارة ترامب بشكل متزامن إبعاد كل من السعودية وتركيا عن روسيا، وفي الوقت نفسه تحقيق الأهداف الأميركية في سورية.

أي دور عربي في سورية؟

الاشتباك الروسي-التركي يخلط الأوراق في النزاع السوري، ويعطي بعض الدول العربية فرصة للعودة إلى لعب دور ما في هذا البلد، حتى لو كان محدوداً وبشروط روسية مسبقة. عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية باتت مسألة وقت، بانتظار أن تعطي الرياض الضوء الأخضر، لكن هناك تحديات جديدة مثل الحرب النفطية الروسية-السعودية وتبعات انتشار فيروس كورونا، قد سير تعيق التطبيع العربي مع دمشق، لا سيما في ظل سنة انتخابات رئاسية أميركية.

كل هذه العوامل لا تنفي غياب مقاربة عربية متماسكة. وهناك ثلاثة أسباب رئيسية تعيق تفعيل أي دور عربي فعال ومنسق في سورية. أولاً، انشغال غالبية الحكومات العربية بمشاكلها الداخلية، وثانياً استمرار الخلافات العربية، وبالتالي غياب الحد الأدنى من الإجماع، وثالثاً القيود التي تفرضها طبيعة التنافس الأميركي-الروسي في سورية. هذا التنافس الاستراتيجي يجعل الخيارات العربية محدودة بين مقاطعة النظام السوري أو إعادته إلى الجامعة العربية. والأهم من ذلك، قد تكون موسكو تتلاعب بكل من الرياض وأنقرة لتعزيز نفوذها في سورية، لكن في نهاية المطاف ستترك الدول العربية مرة أخرى مع أوراق قليلة للتفاوض عليها.