التعليم الديني في لبنان.. يا زمان الطائفية

26 فبراير 2015
مسألة التعليم الديني في لبنان محصورة بيد الطوائف (أ.ف.ب)
+ الخط -

صحيحٌ أن الحرب الأهلية اللبنانية وضعت أوزارها، إلا أن شركاء الوطن لم يتفقوا يوماً على تخصيص كتابٍ موحّد للتاريخ، فلكل لبناني نظرته الخاصة إلى تاريخ بلده، التي تنبع من انتمائه المناطقي والطائفي والحزبي والعقائدي. وكيف لمن لم يتفقوا على وضع كتاب موحّد للتاريخ، أن يتفقوا على وضع كتابٍ موحد للتعليم الديني، وهم الذين تناحروا، على الأقلّ في ظاهر الأمور، بسبب اختلافاتهم الطائفية؟

ينص الدستور اللبناني الذي صدر عام 1990 في المادة العاشرة منه في ما يخص الحريات والتعليم على: "التعليم حرٌّ ما لم يخلّ بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب. ولا يمكن أن تُمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية".

أما وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، المعروفة باتفاق الطائف، التي صادق عليها مجلس النواب اللبناني في عام 1989، فتنص على أنه "تأميناً لمبدأ الانسجام بين الدين والدولة، يحق لرؤساء الطوائف اللبنانية مراجعة المجلس الدستوري فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني".

إذاً تبدأ فوضى التعليم الديني في لبنان أساساً عبر هاتين المادتين، ومنهما تستقي كل طائفةٍ حقوقها الثابتة في ما يتعلق بالتعليم الديني، والتي يستحيل المساس بها، لا بل إن تلك المادتين ذهبتا أبعد من ذلك، إلى حد إعطاء كل طائفةٍ الحق في تأسيس مدارسها الخاصة التي تستقبل أتباعها حصراً، مما يعني أنه توجد في لبنان مدارس تشترط على الطالب أن ينتمي إلى الطائفة "الصحيحة" حتى يتم قبوله على مقاعدها.

بالنسبة للقطاع الخاص، أعطت الدولة اللبنانية الحرية لإدارات المدارس الخاصة لجهة تخصيص حصة للتعليم الديني أو عدمه، وتحديد المذهب الذي يتبعه الكتاب الديني ومدرسوه، مشرعةً الباب أمام حرية الاختيار، وبالتالي الفوضى، في هذا المجال. أما بالنسبة للمدارس الرسمية، فقد أصدرت الدولة اللبنانية في عام 1997 مرسوماً يقضي بجعل التعليم الديني اختيارياً فيها، عبر تخصيص حصتين أسبوعياً للتعليم الديني خارج الدوام الرسمي. إلا أنه، وتحت ضغط المرجعيات الدينية اللبنانية ورجالها الذين ثارت حفيظتهم، تم العدول عن ذلك القرار ليصدر آخر ينص على تخصيص التعليم الديني بحصة دراسية إلزامية أسبوعياً من أصل الحصص المخصصة للفنون والنشاطات المتنوعة في المدارس الرسمية، وذلك وفقاً للمذهب الذي ينتمي إليه غالبية طلاب المدرسة.

وفي عام 2000، أوكلت وزارة التعليم إلى المرجعيات الدينية مهمة وضع كتاب تعليمي ديني موحد، وذلك بالتشاور مع المركز التربوي للبحوث والإنماء التابع لها، إلا أن أية جهة رسمية لم تنجز إلى اليوم ذلك الكتاب. وقد برزت محاولات للاستعاضة عن الكتاب الديني الموحد لجميع الطوائف بكتاب موحد لكل طائفة على حدة، وحتى تلك التسوية لاقت اعتراضات أيضاً. وعليه قامت الدولة اللبنانية تحت ضغط زعماء الطوائف بإلغاء رقابتها على مناهج التعليم الديني، واكتفت بوضع قواعد عامة تمنع الكتب الدينية من المساس بالديانات والطوائف الأخرى، دون وجود أي رادعٍ فعليّ لما قد تتخلله الحصة الدينية من تحريض وشحن طائفيين.

أما بالنسبة لآلية تحديد الطائفة التي تتبعها كل مدرسة، فالأمر أسهل مما قد يبدو، إذ لا يخفى على أحد أن معظم المناطق اللبنانية يغلب عليها لونٌ طائفيّ معيّن، باستثناء بعض المناطق في العاصمة بيروت، حيث يمكن تلمس التنوع المذهبي. إذاً، فالأمر يعتمد بالدرجة الأولى على المنطقة التي تقع ضمنها المؤسسة التعليمية، والتي يتحدد وفقاً لها اللون المذهبي لتلك المؤسسة. ومع تحديد المنطقة والمذهب، ننطلق إلى تحديد الحزب (الطائفي في أغلب الأحيان) الذي يتمتع بالنفوذ الأقوى في تلك المنطقة.

وبهذه الطريقة تصبح المدرسة الرسمية، التي من المفترض أن تكون صرحاً يجمع تحت سقفه جميع اللبنانيين وأبنائهم بمختلف مللهم، مكاناً للتوجيه الديني الذي يتناسب والتوجهات السياسية والحزبية للمرجعيات الطائفية، ليبقى شركاء الوطن لا يفقهون شيئاً عن بعضهم بعضاً، يتمترسون خلف كتبهم الدينية. هذا عوضاً عن أن إلزامية التعليم الديني تتعارض ومبدأ الحرية الفكرية لكل فرد، والتي من المفترض أن يصونها الدستور اللبناني، بل إن ما يحصل هو عكس ذلك تماماً، حيث إن دور الدولة اللبنانية تحول إلى تثبيت الانقسام والفصل بين الطلاب في ما يتعلق بالتعليم الديني.

هكذا، يبدأ الفرز الطائفي في لبنان على مقاعد الدراسة، إما عبر الفصل الطائفي بين المدارس، أو داخل كل مدرسة نفسها عن طريق فصل الطلاب خلال الحصص الدينية في المدارس التي تتمتع بتنوع طائفي، ليتعلم الطالب منذ نعومة أظفاره أن الدين يقسّم ولا يجمع. ومن يعرف التركيبة البنيوية التي يقوم عليها النظام السياسي في لبنان، يدرك جيداً أن قضية التعليم الديني تتعدى كونها مسألة تربوية إلى قضية تتعلق بالنفوذ السياسي والحزبي. فغياب تنظيم الدولة لهذه المسألة فتح الطريق واسعاً أمام تدخل مختلف التيارات الدينية والأحزاب السياسية، الطائفية والمناطقية بطبيعتها، بحجة "تنظيم" التعليم الديني، أي أن هناك توافقاً ضمنيّاً على المضي في تلك الفوضى الدينية لضمان وضع اليد على التلقين الديني حمايةً "للرعايا" وصوناً للأجيال الناشئة.

إذاً، فمسألة التعليم الديني في لبنان محصورة بيد الطوائف، واللبنانيون لا يريدون لأبنائهم كتباً موحدةً يتعرفون من خلالها على "الآخر" المختلف، الذي يفترض أنهم يتقاسمون الوطن معه، عبر تناول الدين كمادة حضارات أو فلسفة أو تاريخ. وعليه، يستمر الجدل في لبنان حول عملية إزالة الطائفية من النفوس، أولاً، أو من النصوص والقوانين والتشريعات والكتب الدينية، والأمر أشبه بالأحجية التي تسأل: ما الذي سبق الآخر، البيضة أم الدجاجة؟ فمتى وُجد الجواب على تلك الأحجية، حُلّت مسألة الطائفية في لبنان.


(لبنان)

المساهمون