13 نوفمبر 2024
التعليم الجزائري وتأبينية ضحايا مسجد كيبك
شهدت مقاطعة كيبك الكندية مجزرة في مسجد المركز الإسلامي راح ضحيتها ستة من أبناء الجالية المسلمة، بينهم جزائريان. وأعلن المجتمع الكندي ومؤسساته، منذ اللحظة الأولى، وقوف كندا، شعباً وحكومةً، مع "أبنائها" المسلمين. وأقيمت لتوديع الضحايا تأبينية شارك فيها رجال سياسة ومسؤولون كنديون، في مقدمتهم الوزير الأول، جاستين ترودو، وألقيت فيها خطب وكلمات مؤثرة. وتلتفت هذه المقالة إلى جملتين مؤثرتين تحدّث فيهما الوزير الأول الكندي عن الجزائريين، الأستاذ الجامعي بلقاسمي والموظف حسان، وعن أسباب هجرتهما إلى كندا، ويستشفّ من قوله حكم وتقييم للمنظومة التربوية ولمسار الحوكمة التعليمية للبلاد عموما.
قال إن الأستاذ الجامعي والباحث في جامعة لافال الكندية هاجر إلى كندا في تسعينيات القرن الماضي، هرباً من موجة الاغتيالات التي طاولت النخبة في الجزائر، بعد توقيف المسار الانتخابي ودخول البلاد أتون حرب أهلية. والمهم، هنا، أن هذا الأستاذ الجامعي، بمساره العلمي والبحثي الأكاديمي، شهادة على نجاح المنظومة التعليمية الجزائرية التي بنيت بعد الاستقلال، بإمكانات قليلة وبسواعد جزائرية في تخريج جامعيين أبهروا العالم بقدراتهم، وذلك بعد بروز نتائج أبحاثهم في بلدان هاجروا إليها، بالنظر إلى نقص الإمكانات على استيعاب تلك القدرات العلمية والبحثية لنخبة فريدة من نوعها. وقال ترودو، في التأبينية، إن الضحية الجزائري الثاني حسان هاجر إلى كندا لتوفير "تعليم جيد لبناته الثلاث". وهذه شهادة مناقضة للأولى، وحكم على المنظومة التربوية والتعليمية التي أصيبت بالفشل وابتعدت عن أسباب توفير مسارات النجاح التي توفرت لها في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، بالإمكانات نفسها، وبالبرامج نفسها، قبل تبني سياسة "الإصلاحات التربوية"، خصوصاً في عهد الوزير السابق بن بوزيد (أشرف على القطاع التعليمي أزيد من 18 عاماً).
في التأبينية، إذن، صورتان وحكمان عن منظومة تربوية وعن حوكمة أنتجت عقولا وذهنيات ومسارات ثم، بالمضمون نفسه وبالإمكانات نفسها، أصابها الفشل، وأصبحت من دون مخرجات أمل، ولا مخرجات مستقبل لطلابها.
بُني النظام التعليمي للجزائر بعد الاستقلال على أساس الجودة والكفاءة، وتم وضع كل
الإمكانات المتاحة، آنذاك، على شحّها، لبناء منظومة تعليمية تعوّض الجزائريين الحرمان التربوي والانسلاخ الحضاري اللذين مارستهما فرنسا الاستيطانية على البلاد أكثر من 130 عاما، وتأهلت عن ذلك النظام الذي تم الاستعانة فيه بمدرّسين من بلدان عربية نخبة من التلاميذ ثم الطلبة، تم ابتعاث المبدعين منهم إلى الخارج، ليعودوا بأعلى الشهادات ويساهموا في رقي الوطن في المجالات كافة. ولجأت البلاد، آنذاك، إلى نظام تعليمي مزدوج اللغة، أي نظام تربوي مرتكز على الاستيعاب باللغتين الفرنسية والعربية في الوقت نفسه، وهو النظام الذي ترقّت به الجودة التعليمية، وساهم في تخريج نخبة السبعينيات ثم الثمانينيات من القرن الماضي.
وكان الضحيتان اللتان وقعتا في كندا ممن استفادوا من ذلك النظام التربوي، وتم إغراؤهم من البلدان الغربية للهجرة إليها، خصوصاً في تسعينيات القرن الماضي، مع احتدام الصراع بين الدولة و"الإسلاميين"، بعد توقيف المسار الانتخابي وانتشار موجة العنف المسلح في البلاد.
بدأ النظام التعليمي في تلك الفترة، أي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في التدهور مع انتهاج النظام سياسة تعليمية غير واضحة المعالم، وتحت مسمى سياسة الإصلاح التربوي، في حين أن مضمونها كان موجها للتراجع عن كل المكتسبات التي أبرزتها وأنتجتها المنظومة السابقة، وبدأت، في أثنائها، إصلاحات أخذت الجودة والكفاءة التعليميتين إلى الحضيض.
كيف لمنظومة تعليمية في بلد كبير، مثل الجزائر، أن يصيبها كل هذا الوهن، وأن تنتقل من مضمون منتج لعقول مبهرة إلى منظومة منفّرة وداعية إلى الهروب والهجرة؟ يكفي، هنا، الرجوع إلى ترتيب الجزائر في مؤشر "جودة التعليم الجامعي" (هو نتاج صيرورة التعليم بنظمه التراتبية من الابتدائي إلى الثانوي)، في المرتبة 119 ضمن تصنيف يتضمن 140 دولة، نشر أخيراً، للوقوف على التردّي الذي وصلت إليه المنظومة، للتأكيد على تردّي تلك الإصلاحات بالنظام التعليمي إلى الهاوية التي كان منطلقها الكبير فضائح الغش في امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) لسنة 1992، ثم السنوات الأخيرة، إضافة إلى تحول المدرسة الجزائرية إلى ساحة للتنافس الأيديولوجي بين من يدعون بـ "المعرّبين" و"الفرانكفونيين"، خصوصاً في ظل إشراف الوزيرة الحالية، بن غبريت، على قطاع التربية والتعليم.
بالنظر إلى كل ما تقدم، كانت التأبينية التي أقيمت لضحايا مجزرة المركز الإسلامي في كندا،
بحق، تأبينية لحوكمة النظام التربوي، حيث إن إبراز ثمرة فترة ذهبية لتلك الحوكمة ممثلة في شخص الباحث الجامعي بلقاسمي، ثم الفترة المتردية ممثلةً في سبب هجرة الضحية حسان، هو دليل على أن التسيير يحتاج مراجعة دقيقة، توضع فيه الفترتان على طاولة البحث، ثم يُرجّح الأصلح، مع الأخذ في الاعتبار كل المتغيرات والعوامل التي أتى عليها الزمن، والتي ستكون، حتما، موضوعا للمراجعة والتحيين الموضوعيين، قصد إنتاج جودة تعليمية وكفاءة بحثية، الجزائر في أمسّ الحاجة إليها.
تحتاج السياسة العامة، في الجوانب كافة، إلى إعادة نظر، لأن المنظومة التسييرية شديدة الترابط في مجالاتها، والتعليم من أشدها حيوية، لأنها مناط بناء التغيير المجتمعي ونشر الوعي، وفسح المجال لتجديد النخب والترقية الاجتماعية، وصولا إلى مسمّى "العدالة الاجتماعية، "وتطبيقا لمبدأ "تكافؤ الفرص" لكل فئات المجتمع، من دون إقصاء ولا تفريق على أي أساسٍ كان.
في الختام، التفكير في الإصلاح ضروري يحتاج لتضافر الجهود وتعاون أصحاب الخبرة، لتكون ثمرة العمل إنتاج (إعادة إنتاج) منظومة تعليمية ذات مخرجاتٍ تشجع على بناء الوعي بالهوية من ناحية، وتكون ذات صلة بالتغيرات المجتمعية والعجلة الاقتصادية وتوجهات الرؤى الجديدة فيها، من ناحية ثانية. وذلك كله، إذا تحقق، كفيلٌ بمنح البلاد الانطلاقة التي تستحقها في عالم كله تنافسية، ومؤشر التعليم وجودته هو من بين مؤشرات "التنمية البشرية" الحقيقية في القياس، وفي التدليل على وجود تلك التنمية حقاً، ولكل فئات المجتمع في البلاد.
في التأبينية، إذن، صورتان وحكمان عن منظومة تربوية وعن حوكمة أنتجت عقولا وذهنيات ومسارات ثم، بالمضمون نفسه وبالإمكانات نفسها، أصابها الفشل، وأصبحت من دون مخرجات أمل، ولا مخرجات مستقبل لطلابها.
بُني النظام التعليمي للجزائر بعد الاستقلال على أساس الجودة والكفاءة، وتم وضع كل
وكان الضحيتان اللتان وقعتا في كندا ممن استفادوا من ذلك النظام التربوي، وتم إغراؤهم من البلدان الغربية للهجرة إليها، خصوصاً في تسعينيات القرن الماضي، مع احتدام الصراع بين الدولة و"الإسلاميين"، بعد توقيف المسار الانتخابي وانتشار موجة العنف المسلح في البلاد.
بدأ النظام التعليمي في تلك الفترة، أي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في التدهور مع انتهاج النظام سياسة تعليمية غير واضحة المعالم، وتحت مسمى سياسة الإصلاح التربوي، في حين أن مضمونها كان موجها للتراجع عن كل المكتسبات التي أبرزتها وأنتجتها المنظومة السابقة، وبدأت، في أثنائها، إصلاحات أخذت الجودة والكفاءة التعليميتين إلى الحضيض.
كيف لمنظومة تعليمية في بلد كبير، مثل الجزائر، أن يصيبها كل هذا الوهن، وأن تنتقل من مضمون منتج لعقول مبهرة إلى منظومة منفّرة وداعية إلى الهروب والهجرة؟ يكفي، هنا، الرجوع إلى ترتيب الجزائر في مؤشر "جودة التعليم الجامعي" (هو نتاج صيرورة التعليم بنظمه التراتبية من الابتدائي إلى الثانوي)، في المرتبة 119 ضمن تصنيف يتضمن 140 دولة، نشر أخيراً، للوقوف على التردّي الذي وصلت إليه المنظومة، للتأكيد على تردّي تلك الإصلاحات بالنظام التعليمي إلى الهاوية التي كان منطلقها الكبير فضائح الغش في امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) لسنة 1992، ثم السنوات الأخيرة، إضافة إلى تحول المدرسة الجزائرية إلى ساحة للتنافس الأيديولوجي بين من يدعون بـ "المعرّبين" و"الفرانكفونيين"، خصوصاً في ظل إشراف الوزيرة الحالية، بن غبريت، على قطاع التربية والتعليم.
بالنظر إلى كل ما تقدم، كانت التأبينية التي أقيمت لضحايا مجزرة المركز الإسلامي في كندا،
تحتاج السياسة العامة، في الجوانب كافة، إلى إعادة نظر، لأن المنظومة التسييرية شديدة الترابط في مجالاتها، والتعليم من أشدها حيوية، لأنها مناط بناء التغيير المجتمعي ونشر الوعي، وفسح المجال لتجديد النخب والترقية الاجتماعية، وصولا إلى مسمّى "العدالة الاجتماعية، "وتطبيقا لمبدأ "تكافؤ الفرص" لكل فئات المجتمع، من دون إقصاء ولا تفريق على أي أساسٍ كان.
في الختام، التفكير في الإصلاح ضروري يحتاج لتضافر الجهود وتعاون أصحاب الخبرة، لتكون ثمرة العمل إنتاج (إعادة إنتاج) منظومة تعليمية ذات مخرجاتٍ تشجع على بناء الوعي بالهوية من ناحية، وتكون ذات صلة بالتغيرات المجتمعية والعجلة الاقتصادية وتوجهات الرؤى الجديدة فيها، من ناحية ثانية. وذلك كله، إذا تحقق، كفيلٌ بمنح البلاد الانطلاقة التي تستحقها في عالم كله تنافسية، ومؤشر التعليم وجودته هو من بين مؤشرات "التنمية البشرية" الحقيقية في القياس، وفي التدليل على وجود تلك التنمية حقاً، ولكل فئات المجتمع في البلاد.