25 فبراير 2022
التعددية معضلة الدولة الحديثة .. لا معضلة المجتمع
بخلاف الأفكار السائدة، ليست الدولةُ الحديثة، أي الدولة القومية، دولةَ تسامح؛ ولا هي دولة أنوار. إنها، بالتعريف الضروري، دولةُ القوم الذين تقول إنها تُمثّلهم وتصونُ مصالحَهم وهُويتَهم. مبدأ الدولة الحديثة هو مبدأ السيادة، وليس التسامح. والقول بتسامحها يشكل واحدةً من الأساطير الفاعلة في التاريخ الحديث. وليس أدلّ على ذلك من أن العنصرية تمأْسَسَت في بوتقتها، وفي المناخ الفكري والثقافي الذي وفّرته لها؛ ولم ترتقِ العنصريةُ إلى مصافِ العقيدة السياسية إلا في الحداثة السياسية، ولم تغدُ مذهباً سياسياً تتأسّس عليه شرعيةُ الأحزاب وتلتهب في سبيله العواطف ويُحشَدُ الناسُ إلا في الدولة الحديثة. إنها الدولة الحديثة التي وفّرت للنازية والفاشية والصهيونية، وغيرها من نظم الأبارتهايد وعقائد الاستئصال العنصري، إمكانيةَ تحققها في التاريخ.
في المقابل، لم تغدُ التعدديةُ السياسية فضيلةً مطلوبة إلا في العقود القليلة الماضية؛ أي حين عرفت البشريةُ محدودات الدولة الحديثة، وبانت لها تناقضاتها البنيوية وأعطابُها وانحرافاتها، ومنها مشكلات النبذ والتهميش، وما يتصل بها من السيرورات المنتجة للأكثرية، وبالضرورة للأقلية؛ وحين أخذ المؤلفون أخيراً يمتدحون الامتزاج بين العناصر والثقافات، ويتحدّثون عن فضائل الاختلاط والتدامج في التاريخ.
والواقع أن قضايا الأقليات، قبل أن تكون مشكلة جماعات مخصوصة، هي أولاً مشكلة الاجتماع الكلي المتمثل في بنية الدولة الحديثة، وفي "العقد الاجتماعي" الذي يُفترضُ أنه يُعبِّر عنه. إنها مشكلة الجماعة كلها، لأن الأقلية لا تبرز، أقلية وهوية سياسية، مغايرة بالضرورة، إلا حين
تنسدّ آفاق الاجتماع كله، فحين تستوطنُ الأزمةُ المشاعر، تَبرزُ الهوّيات الصغرى من بين الشقوق، تنتفخُ وتدخلُ في سيرورةٍ تاريخية، يمكن أن تتحوّل جرّاءَها إلى هُوية أو عصبية كبرى، تلبي، في بورصة الهويات، طلباً اجتماعياً يقي من التبعثر، ويوفِّرُ لأهل "الأمصار القاصية"، بحسب لغة ابن خلدون، حاجتهم "إلى القيام على أمرهم".
ليس معنى القول ببروز الأقلية في لحظة تاريخية معينة أن الهويات مُفْتَعَلة، كما يُحاجِجُ عربٌ بخصوص الكردِ وسواهم، فالهُوّيةُ ظاهرة تاريخية يحتويها التنوعُ البشري الكبير في كل زمان ومكان، فلا وجود لمجتمع خلوٍ من التعدد. لا صفاء بشرياً ولا أصالة عرقيةً لدى البشر. كلٌ منّا هو أولاً كائن كثير ذو هويات عديدة؛ هي أنت ذاتك مع أنها لا تحتويك بكليتك، ولا تحيط بهوياتك التي تستوطن كينونتك. لكن أياً من هذه الهويات الكثيرة المجتمعة فيك لا تنتفخ إلا حين تصطدم بالحرمان. يتضخم الجزءُ المكبوحُ في كينونتك، كلما امتدّ الكَبْحُ في الزمان وتصاعد. أنا عربي بين العنصريين، وفلسطيني إزاء الصهاينة، وإنسان حر وطنه المعمورة في وجه المستبدّين. إنني هذه الهويات كلها، فضلاً عن وإلى جانب هويات أخرى تستوطنني وأستوطنها في آن.
وبكلمة؛ تتشكل الأقلية حين ترى جماعةٌ مخصوصةٌ أنها مُستبعَدة وممنوعة عن أن تكون جزءاً من الكلّ، وأنها تُعامَل كأقلية. أزمة الأقليات هي إذن نتاج الأزمة العميقة الكامنة في البنيان كله، وعلاجها يبدأ بإلغاء شروط إنتاجها كأقلية، أي بإلغاء شروط إنتاج الأكثرية التي تنتج
الأقلية. ولكن هذا لا يحدث إلا في التاريخ وليس في العقول فحسب.
بيِّن أن قضية الأقلية والأكثرية من معطيات الحداثة، إحدى السيرورات الاجتماعية التي ولّدت التّدامُج الذي رافق في رحم التغيرات العميقة في بنى المدن والمواصلات والعمل والتجمعات الحضرية الكبرى، من جهة، ومن منتجات الشرعيات السياسية الحديثة، من جهة ثانية. فقد مثّلت الدولة التقليدية (الدولة السلطانية في تراثنا) الإطارَ المناسب لتجديد الجماعات المحلية هويتها في التاريخ. فلم تكن الدولة التقليدية تشترط على رعاياها الاندماج في إطار جماعة قومية عليا على حساب خصوصياتها المحلية و/ أو الثقافية واللغوية والدينية كما تشترط الدولة الحديثة وتفعل؛ ولم تجند لا التربية المدرسية ولا الآلة الإعلامية الساحقة من أجل ترويج دينها الخاص الذي يشكل اليوم المصدر الرئيس لشرعية الدولة الحديثة، فلقد أدخلت الحداثة السياسية مجموعة من الأساطير، أهمها أسطورة ضرورة التطابق بين الدولة والهوية الجمعية لسكانها. وهي أسطورةٌ بمعنى أن التطابق المذكور الذي سيطر على التفكير البشري منذ منتصف القرن التاسع عشر وما يسمى عصر القوميات، لم يَثبت بعد لا صلاحيته الفعلية بالنسبة للجماعات البشرية التي افتُرض أنه يعبر عن مصالحها، ولم يوفّر لهذه الجماعات هويةً تخلو من التناقضات والتمزقات التي نشهدها اليوم في أكثر من مكان. الدولة الحديثة، بتغوُّلها وباحتلالها المتنامي الآفاق الاجتماعية من عمل وتربية وسكن وصحة وخدمات مختلفة أخرى، هي ظاهرةٌ حديثةٌ في السياسة، لم تعرفها البشرية طوال تاريخها المديد، أولاً، وهي التي جعلت ممكناً الاعتقادُ الذي غدا راسخاً بخصوص أن الدولة تعكسُ، على صفحة مرآتها، هويةَ الجماعة، أي خصوصيتها في التاريخ، ثانياً. ولا يتيح المجال هنا بيان كيف أن هذا الاعتقاد يقف في أساس العقائد العنصرية المنتشرة في الاجتماع الحديث. تكفي الإشارة هنا.
لا تتحقق الوحدات بالإرادة فقط، بل في إطار سيرورة تاريخية تلعب فيها مجموعة من الشروط دور الإسمنت اللاحم؛ أهمها شعور الجماعات الدنيا بأن وجودها معترفٌ به، وأن القرارات السياسية الجماعية تعبّر عن مصالحها التاريخية وعن وجودها، و/ أو أنها لا تشكل خطراً على هذا الوجود، أي لا تقوم بتحويلها إلى أقلية سياسية مغبونة الحقوق. إلى ذلك، ليست الهويات الجمعية معطىً ناجزاً يتحقق مرة واحدة، وإلى الأبد. بل هي، على شاكلة الوقائع الاجتماعية جميعها، سيرورات تاريخية مشروطة، أي تختزن في داخلها الاحتمالات التاريخية جميعها التي تتراوح بين طرفي الوحدة الراسخة والاحتراب والانقسام والشرذمة. وأفترض، مع كثيرين
غيري، أن تجذُّرَ المطالب الخصوصية، أي انتقالها إلى طور التأكيد السياسي، وإلى التوظيف في سوق العمل السياسي، وأن استراتيجية الهوية، لا تصبح ممكنة كسلاح سياسي إلا حين يخرج الصراع على السلطة و/أو من أجل احتكارها من إطار السياسة المدنية، بتفاوضاتها وتحالفاتها وبحلولها الوسطى وبتنازلاتها، ويدخل في إطار القوة العارية والتسلط والقهر والغلبة، كما هو الأمر في أكثر من بلد عربي اليوم.
لا تنشأ مشكلة الأقلية، إذن، نتيجةَ وعيِ القوم المعني بهويته كجماعة مخصوصة، بل بالضبط جرّاء الشعور بأن وجود الجماعة في التاريخ (أي من حيث هي هوّية) غدا، كما أسلفت، مُهدّداً، وجرّاءَ ترسُّخِ الوعي باستحالة الوصول إلى حلول ممكنة داخل الإطار السياسي القائم. هكذا تبدو مشكلة الأقلية أنها مشكلة العمل السياسي الحديث، وبالأصح غياب السياسة أو عجزها عن العمل. وأسمح لنفسي هنا بمعارضة رأي شائع يقيم علاقة إيجابية بين الهوية والمطالبة بالتمايز وبالانفصال السياسي على قاعدة الخصوصية، فما تتيحه القراءة المتأنية للوقائع المعاصرة، العربية منها وغير العربية، من استنتاج، هو أن الانتقال من الهوية الاجتماعية إلى الهوية السياسية، أي إلى المطالبة بتحقيق التطابق بين التنظيم السياسي (الدولة) والهوية الاجتماعية، لا ينشأ إلا حين تلتقي سيرورتان اثنتان وتتضافران معاً. أولاهما هي سيرورة تحلل الإطار السياسي السابق وعجز الدولة المركزية عن القيام بوظائفها التاريخية ضامناً للوحدة الاجتماعية وللمصالح الرئيسة للجماعات العديدة التي تتسيّد عليهم (من سيادة)، وثانيهما سيرورة تنامي الوعي بالعجز عن التوصل، بواسطة السياسة، إلى حلولٍ من خلال هذا الإطار نفسه.
والواقع أن قضايا الأقليات، قبل أن تكون مشكلة جماعات مخصوصة، هي أولاً مشكلة الاجتماع الكلي المتمثل في بنية الدولة الحديثة، وفي "العقد الاجتماعي" الذي يُفترضُ أنه يُعبِّر عنه. إنها مشكلة الجماعة كلها، لأن الأقلية لا تبرز، أقلية وهوية سياسية، مغايرة بالضرورة، إلا حين
ليس معنى القول ببروز الأقلية في لحظة تاريخية معينة أن الهويات مُفْتَعَلة، كما يُحاجِجُ عربٌ بخصوص الكردِ وسواهم، فالهُوّيةُ ظاهرة تاريخية يحتويها التنوعُ البشري الكبير في كل زمان ومكان، فلا وجود لمجتمع خلوٍ من التعدد. لا صفاء بشرياً ولا أصالة عرقيةً لدى البشر. كلٌ منّا هو أولاً كائن كثير ذو هويات عديدة؛ هي أنت ذاتك مع أنها لا تحتويك بكليتك، ولا تحيط بهوياتك التي تستوطن كينونتك. لكن أياً من هذه الهويات الكثيرة المجتمعة فيك لا تنتفخ إلا حين تصطدم بالحرمان. يتضخم الجزءُ المكبوحُ في كينونتك، كلما امتدّ الكَبْحُ في الزمان وتصاعد. أنا عربي بين العنصريين، وفلسطيني إزاء الصهاينة، وإنسان حر وطنه المعمورة في وجه المستبدّين. إنني هذه الهويات كلها، فضلاً عن وإلى جانب هويات أخرى تستوطنني وأستوطنها في آن.
وبكلمة؛ تتشكل الأقلية حين ترى جماعةٌ مخصوصةٌ أنها مُستبعَدة وممنوعة عن أن تكون جزءاً من الكلّ، وأنها تُعامَل كأقلية. أزمة الأقليات هي إذن نتاج الأزمة العميقة الكامنة في البنيان كله، وعلاجها يبدأ بإلغاء شروط إنتاجها كأقلية، أي بإلغاء شروط إنتاج الأكثرية التي تنتج
بيِّن أن قضية الأقلية والأكثرية من معطيات الحداثة، إحدى السيرورات الاجتماعية التي ولّدت التّدامُج الذي رافق في رحم التغيرات العميقة في بنى المدن والمواصلات والعمل والتجمعات الحضرية الكبرى، من جهة، ومن منتجات الشرعيات السياسية الحديثة، من جهة ثانية. فقد مثّلت الدولة التقليدية (الدولة السلطانية في تراثنا) الإطارَ المناسب لتجديد الجماعات المحلية هويتها في التاريخ. فلم تكن الدولة التقليدية تشترط على رعاياها الاندماج في إطار جماعة قومية عليا على حساب خصوصياتها المحلية و/ أو الثقافية واللغوية والدينية كما تشترط الدولة الحديثة وتفعل؛ ولم تجند لا التربية المدرسية ولا الآلة الإعلامية الساحقة من أجل ترويج دينها الخاص الذي يشكل اليوم المصدر الرئيس لشرعية الدولة الحديثة، فلقد أدخلت الحداثة السياسية مجموعة من الأساطير، أهمها أسطورة ضرورة التطابق بين الدولة والهوية الجمعية لسكانها. وهي أسطورةٌ بمعنى أن التطابق المذكور الذي سيطر على التفكير البشري منذ منتصف القرن التاسع عشر وما يسمى عصر القوميات، لم يَثبت بعد لا صلاحيته الفعلية بالنسبة للجماعات البشرية التي افتُرض أنه يعبر عن مصالحها، ولم يوفّر لهذه الجماعات هويةً تخلو من التناقضات والتمزقات التي نشهدها اليوم في أكثر من مكان. الدولة الحديثة، بتغوُّلها وباحتلالها المتنامي الآفاق الاجتماعية من عمل وتربية وسكن وصحة وخدمات مختلفة أخرى، هي ظاهرةٌ حديثةٌ في السياسة، لم تعرفها البشرية طوال تاريخها المديد، أولاً، وهي التي جعلت ممكناً الاعتقادُ الذي غدا راسخاً بخصوص أن الدولة تعكسُ، على صفحة مرآتها، هويةَ الجماعة، أي خصوصيتها في التاريخ، ثانياً. ولا يتيح المجال هنا بيان كيف أن هذا الاعتقاد يقف في أساس العقائد العنصرية المنتشرة في الاجتماع الحديث. تكفي الإشارة هنا.
لا تتحقق الوحدات بالإرادة فقط، بل في إطار سيرورة تاريخية تلعب فيها مجموعة من الشروط دور الإسمنت اللاحم؛ أهمها شعور الجماعات الدنيا بأن وجودها معترفٌ به، وأن القرارات السياسية الجماعية تعبّر عن مصالحها التاريخية وعن وجودها، و/ أو أنها لا تشكل خطراً على هذا الوجود، أي لا تقوم بتحويلها إلى أقلية سياسية مغبونة الحقوق. إلى ذلك، ليست الهويات الجمعية معطىً ناجزاً يتحقق مرة واحدة، وإلى الأبد. بل هي، على شاكلة الوقائع الاجتماعية جميعها، سيرورات تاريخية مشروطة، أي تختزن في داخلها الاحتمالات التاريخية جميعها التي تتراوح بين طرفي الوحدة الراسخة والاحتراب والانقسام والشرذمة. وأفترض، مع كثيرين
لا تنشأ مشكلة الأقلية، إذن، نتيجةَ وعيِ القوم المعني بهويته كجماعة مخصوصة، بل بالضبط جرّاء الشعور بأن وجود الجماعة في التاريخ (أي من حيث هي هوّية) غدا، كما أسلفت، مُهدّداً، وجرّاءَ ترسُّخِ الوعي باستحالة الوصول إلى حلول ممكنة داخل الإطار السياسي القائم. هكذا تبدو مشكلة الأقلية أنها مشكلة العمل السياسي الحديث، وبالأصح غياب السياسة أو عجزها عن العمل. وأسمح لنفسي هنا بمعارضة رأي شائع يقيم علاقة إيجابية بين الهوية والمطالبة بالتمايز وبالانفصال السياسي على قاعدة الخصوصية، فما تتيحه القراءة المتأنية للوقائع المعاصرة، العربية منها وغير العربية، من استنتاج، هو أن الانتقال من الهوية الاجتماعية إلى الهوية السياسية، أي إلى المطالبة بتحقيق التطابق بين التنظيم السياسي (الدولة) والهوية الاجتماعية، لا ينشأ إلا حين تلتقي سيرورتان اثنتان وتتضافران معاً. أولاهما هي سيرورة تحلل الإطار السياسي السابق وعجز الدولة المركزية عن القيام بوظائفها التاريخية ضامناً للوحدة الاجتماعية وللمصالح الرئيسة للجماعات العديدة التي تتسيّد عليهم (من سيادة)، وثانيهما سيرورة تنامي الوعي بالعجز عن التوصل، بواسطة السياسة، إلى حلولٍ من خلال هذا الإطار نفسه.