الترفيه في مواجهة الحرب

21 يونيو 2016
لوحة للفنان مارك رشلفيتش (Getty)
+ الخط -
لا يأبه الجنرال للموسيقى، ولا يفهمها، هو مشبع بالحرب وأصواتها، له موسيقاه الخاصة القائمة على أصوات الرصاص والمدافع، لا يفهم الحياة إلا من خلال القوة التي يتموضع فيها، يسأل "ما جدوى الموسيقى"؟ يجيبه قائد الأوركسترا: "ما جدوى الحرب"؟.
كلاهما لا يفهم الآخر، ولا علة وجوده، هكذا يجري الحوار بينهما، لكنه ليس حواراً ندياً بين أحرار متساويَيْن، ليس حواراً في مقهى بين صديقين يشربان القهوة معاً، ولا حواراً عابراً بين رفيقي سفر في قطار ما، هو حوار بين قائد أوركسترا يجد نفسه بغتة في الأسر بين يدي قائد الجبهة المعادية، والجنرال الآمر لها، مصيره ومصير الفرقة الموسيقية كلها في يديه، هكذا يجري الحوار بين جنرال في موقف قوة، وقائد أوركسترا في حالة الأسر.
تماماً كما وجدت شهرزاد نفسها عالقة مع شهريار المخدوع من النساء بعد أن وصل الدور إليها، وباتت وجهاً لوجه أمام آلة الموت اليومية المسماة شهريار.

لا يتوقف التماثل بين رواية الجنرال للكاتب البريطاني "آلان سيليتو" مع "ألف ليلة وليلة" عند شخصيتي شهريار وقائد الأوركسترا، بل يتعداه إلى التماثل بين شهريار والجنرال، كلاهما يعلن الحرب ويمتلك أدواتها وإرادتها، فشهريار الملك الغاضب من غدر النساء، يحوز السلطة والمال لإعلان حروبه التي يريدها، وفي الزمن الذي يشاء، والحرب عند الجنرال تتجلى في مكنون وظيفته التي يتماهى معها، لتبدو وكأنها، ولا شيء سواها، عالمه الأوحد.
عبر الإمتاع السردي أنشأت شهرزاد كونًا موازيًا لسلطة شهريار، كوناً لا يستطيع التحكم فيه ولا التدخل بمجرياته، تدور أحداثه الغريبة وفق إيقاع مرهون بمشيئة شخوصه ودوافعهم، أو بمشيئة الراوية.

هو، أي شهريار، في هذا الكون يتلمس كالأعمى المُقاد من يده شيئاً فشيئاً، مدفوعاً بعامل الإثارة والتشويق، فيما هي تستبطن مهلة أخرى، وتنفِّس شحنة غضبه بانتظار أن تتحول الهدنة إلى صلح دائم.
وما المانع، مادامت قد استطاعت عبر وسيلة الترفيه أن تحقق مهلة مع الموت المعلن، أو هدنة مؤقتة بين عنقها وبين السيف؟.

كان سردها عاملاً على تعطيل الحرب أو تأجيلها، فكأنه واحد من أدواتها الدفاعية أو قوى الردع التي لديها، وبهذا استحال السرد الممتع حرباً ضد الحرب، أو سداً زمنياً ضد ديمومتها واستمرارها.

لا يبدو شهريار حاضراً في متن "ألف ليلة وليلة"، كوجود فاعل، غير أن وجوده متحقق في تحفيز استمرارية السرد كآلية دفاعية من شهرزاد، فما الذي بوسع المحكوم بالإعدام أن يفعله؟ لا شيء سوى انتظار موته المحتوم، أو أن يرشو الجلاد بشيء ما، ليكسب برهة حياة أخرى، وهو ما فعلته شهرزاد، آملة أن تمتد تلك البرهة إلى زمنها النهائي.
غير أن التماثل يتوقف هنا ليتعداه إلى الاختلاف بين العملين، فليس لدى الجنرال سبب شخصي يدفعه إلى الحرب، أو حافز ذاتي، خلافاً لشهريار الغاضب، هو جنرالٌ وظيفته الحرب، يؤدي دوره الوظيفي بهندسة معارفه العسكرية وفنونه القتالية.

يمضي الاختلاف الثاني بين العملين أبعد من ذلك عبر الموقع الأخلاقي للجنرال الذي حسب كل حسابات الجبهة، إلا أن يقع هؤلاء الفنانون بين يديه، فهم مدنيون! لو كانوا جنوداً لما تردد في إعدامهم، مدنيون لا ذنب لهم، وهي محاكمة أخلاقية وإنسانية، لا نلحظ مثيلَها في "ألف ليلة وليلة" لدى شهريار.
كما أن الموقف العسكري المتحرك في الجبهة لا يسمح له بالإبقاء عليهم أسرى، إنه ليس مهيأ للاحتفاظ بهم فما العمل؟

بانتظار الجواب من القيادة المركزية حول كيفية التعامل مع هؤلاء الأسرى الخاصين، نشأ الفرق الأهم بين العملين، فثمة كيمياء تجري بين الرجلين، يتفاعلان فيها عبر طابعها السجالي كراً وفراً كما الحرب، وتؤسس للموقف النهائي في الرواية، فيما تتموضع شخصية شهريار في بعدها الخطي خارج التدرج أو التفاعل.

كلا العملين يستند إلى الصراع بين الثقافة في شرطها الإنساني ومظهرها الترفيهي، وبين الحرب بأبعادها التدميرية، ولكن بعيداً عن الشرط الزمني للكتابين، وعن جدوى المقارنة بينهما، فرواية الجنرال تتفوق على "ألف ليلة وليلة" في الخاتمة، التي يتسامح فيها شهريار مع النساء جميعاً ويتوقف عن القتل، خارج أيّ تبعات شخصية لموقفه، يكفي أن يتسامح ويسامح، ويتوقف عن القتل! خارج أي معطى للندم على ما اقترف سابقًا، فيما الجنرال يدفع ثمن موقفه الرافض لإعدامهم، مخالفاً بذلك أوامر القيادة العليا التي طالبته بتنفيذ الأمر فوراً، وبفتح ممر آمن للهروب، مقابل أن يعزفوا أمامه وأمام جنوده حفلاً موسيقياً واحداً.
المساهمون