"مراعاة ألا يتعارض الكتاب ـ المقترحة ترجمتُه ـ مع الأديان وألا يتعارض الكتاب مع القيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف"؛ تتعلّق هذه الكلمات بـ"مقاييس جديدة" أعلنتها أخيراً مديرة "المركز القومي للترجمة" في مصر؛ علا عادل (قبل أن تُدعى إلى مهام أخرى)، لقبول مقترحات المترجمين. طبعاً، لم تمرّ "لائحة المحظورات" هذه دون إثارة جدل بين المثقفين المصريين، بين المتخوّف والساخر، وهي ردود فعل طبيعية حيال لهجة الرقابة الاستباقية التي تسري بين السطور.
يكاد يشبه ما ورد في البيان مقطعاً في قصيدة شهيرة لأحمد فؤاد نجم، لحّنها الشيخ إمام يعدّد فيها الممنوعات، ولم تكن تلك الممنوعات - من باب المفارقة - إلا أبسط الحقوق التي يفترض أن تكون للإنسان. في "ممنوعات" المركز القومي للترجمة يُغفَل أهم ركن يمكن الاستناد إليه على أمل أن تؤدّي الترجمة منفعة حضارية لمجتمعاتنا العربية، وهي الثقة في اختيارات المترجم باعتباره العارف بما في بطن الثقافة المصدر وما ينقص ثقافتنا.
ومن المعروف أننا حين نترجم نذهب إلى ثقافة مختلفة، فهل يمكن أن نتصوّر ثقافة أجنبية تتطابق معنا في "القيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف"؟ بهذا المنطق، فإن الترجمة بما هي رئة يدخل منها هواء جديد إلى ثقافتنا، تصبح مرآة عاكسة فلا تؤدّي إلا إلى مزيد من الانسداد والتكرار. هكذا يَقلب منطقُ واضعي اللوائح دوْرَ الترجمة من عمل مفتوح على الآخر إلى انغلاق كئيب على الذات، وبدل أن نترجم ما نحتاجه فإننا نترجم ما نعتقد أن مجتمعاتنا تريد قراءته.
فوضى اختيارات المترجمين أفضل من نظامٍ رقابي تفرضه المؤسّسات
خبرُ بيان "المركز القومي للترجمة" وحكايته مع المثقفين المصريين، يُعيدنا إلى التفكير في مواقع هذا النوع من المؤسسات في البيئة الثقافية عامة. أية ثقة تحكم العلاقة بين المؤسسات والمثقفين الذين يتعاملون معها؟ هناك شيء ما غامض في هذه العلاقة، حالة من عدم التجانس ومن سوء الفهم ومن الحسابات المعقّدة تحكم العلاقة بين المثقفين والمسؤولين، حتى لو حُسبوا من المثقفين. ها قد حدثت الضجّة ومرّت، ولكننا نكاد نجزم بأن ما وقع إنما هو "حوار طرشان". لن تتغيّر المؤسسة بتغيير مديرها، وما بيان علا عادل إلا زلةٌ تكشف ما في باطن هذه المؤسسات، فـ"لائحة المعايير" التي خرجت للعلن قد تكون توجّهات عامة طُبّقت وتطبّق وستطبّق.
لو سايرنا هذه التوجّهات، وقد لا تكون استثناءً في العالم العربي، وكأننا بمؤسسات الترجمة - وهي قليلة - تجتهد لتلعب دور "حرّاس البوابة". ألا ينبغي لها أن تفكّر، ويفكّر المترجمون معها في أدوار أُخرى؟ مثلاً، هل قدّمت إحدى هذه المؤسّسات بيبليوغرافيا شاملة لقطاع معرفيّ بما يتيح للمترجمين قراءة سريعة تمكّنهم من تحديد الأولويات؟ أبسط من ذلك، هل نملك في الوطن العربي كله كشفاً يَفرز ما تُرجم ممّا لم يترجم بعد؟ بعبارة أخرى، لماذا لا تتصدّى المؤسّسات لما ينبغي أن تفعله تحديداً، وهو إنجاز ما لا يمكن الأفراد تحقيقه.