الترابي... الانقلابان الإسلامي والعسكري

26 مارس 2016

دراسة الترابي مهمة لفهم الحركة الإسلامية السودانية (Getty)

+ الخط -
تنطوي، برحيل الدكتور حسن الترابي، صفحة مثيرة من الحياة السياسية في السودان. وفي الأسبوعين الماضيين عقب وفاته، سطرت مقالات مدحته، وأخرى كثيرة، وعلى غير العادة، قدحت فيه، وهو أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في السودان. وبعيداً عن أفكاره واجتهاده في التجديد الديني، ستظل أفكار الترابي السياسية تثير الجدل بين أنصاره ومخالفيه الرأي، وهو الذي تجسّد شخصيته السياسية ارتباك السياسي السوداني وقلة حيلته وضيق أفقه عن رؤية وطن فسيح متعدد متنوع في اتساع.
ومع أن حسن الترابي يعد إحدى ثمرات جيل سوداني موسوعي المعرفة ، الا أنه، شأن غيره من أبناء جيله، سجل فشلاً كبيراً في المفارقة الصارخة بين المعرفة الشخصية والتنزيل الخلاق لهذه المعرفة، وعسكها على الواقع، بما يفيد الناس وتقدّم حال البلاد. وطوال عقود منذ عام ظهوره الأول البارز على الساحة السياسية السودانية، في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وحتى وفاته، عاش ومعه عاش تنظيم الإخوان المسلمين حالة سياسية غامضة، ثم تحولت إلى بؤس كامل بعد الخطأ القاتل له، والتنظيم من ورائه، بتنكب مغامرة انقلاب يونيو/ حزيران 1989، انقلاب مأساوي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
دراسة مسيرة الترابي السياسية، صعوداً وهبوطاً، مهمة لفهم تجربة الحركة الإسلامية في السودان التي قادها عقوداً ووسمها بأفكاره ورؤاه. ولعل أبرز سمات تنظيم الإخوان المسلمين في السودان حياة ثنائية غريبة ومستمرة، اعتادها واستمرأها وأصبحت سابقة غير مألوفة لحزب سياسي. وعلى مدى عقود، تلون التنظيم، وتعدّدت الأسماء، ورفض بثبات التمسك باسم واحد عنواناً يتسق مع الحزب وتوجهه السياسي، فهو تنظيم الإخوان المسلمين السري، وجبهة الميثاق الإسلامي العلنية بظهورها في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، ثم أصبح الجبهة الإسلامية القومية، في فترة ما بعد سقوط نظام جعفر النميري، ثم المؤتمر الوطني بعد الانقلاب العسكري بقيادة عمر البشير، ثم المؤتمر الشعبي بعد المفاصلة وانشقاقه عن المؤتمر الوطني الحاكم اليوم. وكل اسم من هذه الأسماء وتبدلها يكاد المرء يلمس فيه بصمات براغماتية حسن الترابي، فليس مهماً تاريخ الحزب السياسي، أو العنوان والرمز لهذا التوجه، وإنما كيفية التعبير عن المرحلة والوصول إلى الهدف.
كذلك، وطوال العقود الماضية من حياة الترابي، وحزب الإخوان المسلمين، على اختلاف
المسميات، يتحاشى الحديث الصريح عن كونه حزباً سياسياً، شأن كل حزب آخر في السودان، يعبّر عن مصالح فئات اجتماعية ويدافع عنها. كما يتجنب الحديث عن أن هذا هو سبيله إلى الحكم، وتطبيق دستوره المستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية. ومن الصعب أن تجد عملا مستنيراً فكرياً، أو برنامجاً ثقافياً، يكشف عن توجه ورؤية، لا للترابي أو للتنظيم، خصوصاً في الفترة التي سبقت تجربة الانقلاب العسكري الذي جاء بالرئيس عمر البشير. وفي المقابل، طرح التنظيم شعاراً سمي "الانقلاب الإسلامي"، بهدف استراتيجي "يسعى إلى تحويل كيفي للمجتمع، وتغيير جذري لقواعده وأصوله، يتحقق باستكمال المقومات والفعاليات والخصائص الإسلامية في شخصية الأمة".
على أن جل الحراك السياسي الظاهر الذي يمكن أن يرصده متابع في غالبه ردود أفعال لحراك ذي طابع سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، وغالبا وحصراً على ما يصدر عن اليسار السوداني. وهذا يفسر السلوك العنيف الذي وسم الحركة الإسلامية وطبعها، على المستوى الطلابي أو السياسي العام، وضيقهم الشديد بكل حراك فكري قوي.
وجه جديد للتناقض في حياة الترابي والتنظيم معاً يبرز في سعيه إلى إقامة حركة إسلامية قومية شاملة، كما جاء في مقترح الحزب عام 1975، للارتقاء بفكرة تنظيم الجبهة الوطنية التي تأسست تنظيماً يضم، إلى جانبه، حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، لكنه يعتمد نظرية الحزب الطليعي، كما في الأدب اليساري، ليجعل من أكبر حزبين في السودان ينضويان تحت لواء الإخوان المسلمين. وهو ما لم يغب عن فطنة الصادق المهدي الذي ردّ على هذه الفكرة الطليعية، في تقديمه مشروع ميثاق الجبهة الوطنية، بتساؤل منطقي "إذا كانت الجبهة الوطنية، كتنظيم شعبي جامع، قد ارتضى الإسلام منهجاً وفلسفةً، فما هي الحاجة لحزب إسلامي يتعصب له الإخوان المسلمون؟".
عاش التنظيم بقيادة حسن الترابي حياةً مليئةً بالمتناقضات والثنائيات، فهو ضد جعفر النميري إلى حد الحرب (يوليو/ تموز 1976)، ثم هو الحزب الوحيد الذي يستمر في مشاركة النميري الحكم، وهو مع صحيح الإسلام، ثم هو مع "قوانين سبتمبر" التي صاغها وزيّنها للنميري، إلى درجة مبايعة الأخير إماماً. وهو مع الديمقراطية سبيلاً للحكم، ثم هو من يتنكّب الانقلاب العسكري الذي يقفز فوق حواجز "الانقلاب الإسلامي"، وهنا الكارثة الكبرى، وهنا المزاوجة الأخيرة، فالتنظيم السري يختار رئيساً انقلابياً من المؤسسة العسكرية "للتمويه". والحال هكذا، أصبح التنظيم والترابي فترة يحكم من المقاعد الخلفية، فلا الرئيس هو الرئيس، ولا التنظيم يتحمل مسؤوليته، ويعلنها صريحة هذا برنامجي، وهذه رؤيتي، وهذه دولتي التي أريد. وتحت هذه المغامرة، انهارت الخدمة المدنية العتيدة في السودان، تحت ضربات قوات التمكين. وأطاح قانون الصالح العام أعمدة الدولة من الكفاءات، ليحل مكانها أبناء التنظيم، وتبدأ مرحلة من تجريب كارثي، في كل مرافق الدولة. وانتهى الحوار الوطني الأول إلى حملة "جهاد" وحرب غير مسبوقة في جنوب السودان. وانتهت الحرب الى الانفصال، ثم حرب جديدة أسوأ من سابقتها في الهامش من دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان.
ويقيناً أن ثنائية الحكم التي أعقبت الانقلاب على الديمقراطية جعلت من الترابي الشخصية الحاسمة طوال العقد الأول من حكم الرئيس البشير، وله الكلمة الأعلى بلا جدال في ظل وجود رئيس صوري. ولهذا يصعب تقبل انتقاداته اللاذعة التي وجهها للرئيس البشير، وتبرئة نفسه من ممارساتٍ مقيتةٍ انزلقت إليها جبهة الإنقاذ. وهنا حالة الفصام التي طبعت طيف المثقفين السودانيين، بمن فيهم الترابي، ممن ركبوا موجة السياسة، فعاثوا فيها تخبطاً وتجريباً وفساداً، وخالفوا رشيد القيادة، وولغوا في فجور الخصومة، وأقعدوا تجربة الحكم، وفتحوا الباب أمام الدورة الشيطانية في الحكم. لذا، ظل خطأ الانقلاب العسكري الكابوس عام 1989 الأكثر إزعاجاً، وأم الكوارث التي وقع في حبالها الترابي، ومعه التنظيم بكامله. أكثر من ذلك، نثر غيابه عن موقع القيادة بعد المفاصلة بذور الشقاق وتصدّع الحركة التي لم تأكل شيخها فحسب، بل نثرت بذور الشرور بأنواعها فساداً غير مسبوق، وأصبح الوطن بكامله، في لحظة إقصاء الآخر، بسبق إصرار وترصد، رهينة للفشل المطبق، والدولة في مهب الريح.
وليس التراجيدي، هنا، فقط أن حسن الترابي، القائد التاريخي للحركة الإسلامية، قد أقصي تماماً عن قيادة الحركة وحسب، بل أمام ناظريه تكاثرت نذر تصدّع الدولة السودانية، كنهاية مأساوية لفكرة "الانقلاب الإسلامي" قضى عليه انقلاب عسكري .. وأي مأساة.
دلالات
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.