يقولون إن المفارقة النصية حدثٌ أسلوبي يحمل قيمة جمالية فريدة تصدر عن قرار للذات المتكلمة/الفاعلة حين تقوم بفعل كلامي أو تصويري يبدو خارقاً للمعروف من قواعد الاستعمال المعيارية التي يتشارك فيها مجموع المتخاطبين. وتساءلت حين تأملت هذا التعريف وهل هناك نص تنطبق عليه صفة المفارقة كما انطبقت على ميدان التحرير.
التحرير نص شامل يصدر عند التفاعل معه لمشاهدة دلالات ورموز تشكل إدراكه وتفكيره وتحدد مسار حركته. هذا الميدان على تكونه من عناصر قد تبدو اعتيادية، ظلّ في تفرّده بلا شبيه، فهو لم يصنع على نمط بعينه، ولم يماثل أي نصوص بصرية ولغوية سابقة.
إنه نص عبقري: فيه من الأدب ذلك الخروج عن المألوف في التعبير، إذ ينزع لاستخدام الحيل البلاغية والتراكيب اللغوية والبصرية غير النمطية. وهو حالة شعرية حقيقية، كونه قد حمل في دلالاته طاقة هائلة من كلام اختص بقدرته العظيمة على المخالفة للسائد والتجدد بعيداً عن المعروف. هذا التفرّد تَرافقَ وحالة من التوتر يصنعها لدى متلقيه ككل نص شعري عظيم. ولدى قياسه بمعايير ألسنية مع جنسه النصي والبصري ومقارنته بنصوص تنتمي لحقبته، وبمواجهة جوهره المشترك مع عموم اللغة والتشكيل، سنلمح هذا الطابع النادر المفارق.
هو نص مفارق بمعنى أنه جنون على نحو ما يعرف أراغون. مفارق حتى في أسلوب النقل والتبليغ الذي يعتمده. النص المفارق هذا يعطي الأشياء معاني جديدة، صانعة دلالات مخالفة للسائد. يجمع الحقيقة بالمجاز، والمتعين المدرك حساً ومساً بالخيال المدرك بالمعنى. يخاطب بلغته الحاضر والغائب بذات الصيغة. فالكون لديه حضور وشهود دائمين.
يهجر التلميح إلى التصريح، باثّاً الجرأة في قلب قائله وفاعله، مسايراً لحالة التسامي والرغبة في مفارقة الراهن المأزوم. النص هذا نشأ من تجاوز للغة القديمة، ورغبة في استحداث تعبيرات أكثر قدرة علي حمل المعاني والأفكار الجديدة لجيل ثائر ولد في رحم هذا الميدان.
* باحث وكاتب من مصر