25 أكتوبر 2024
التحالفات في اليمن: باب موارب للحرب
عقوداً طويلة، اتسمت الحياة السياسية اليمنية بانبثاق تحالفات متعددة بين قوى سياسية واجتماعية، حيث لعبت دوراً مؤثراً في كلٍ من صياغة الخيارات الوطنية للجمهور اليمني، وفي تشكيل هيئات "وطنية" وفقاً لاصطفافاتها السياسية، كما أنها، قبل كل شيء، تتعزّز من الصراع، وغالباً ما تفضي إلى مقدمات اقتتال أهلي، كما يحدث اليوم. نشأت أغلب هذا التحالفات وفقاً للضرورة السياسية المتغيرة، وغلبت على كثير منها محددات، نمطية في سماتها وتموضعاتها وأدائها في الواقع، حيث غالباً ما تتشكل هذه التحالفات من قوى سياسية واجتماعية، غير متجانسة وظيفياً وفكرياً، ولا يمتلك كثير منها أجندة سياسية واضحة، يتفق حولها جميع اليمنيين، وتحقق مصالحهم؛ كما لا تحتكم التحالفات في أدائها واستراتيجيتها إلى معايير وطنية شاملة، بل تخضع لقوانين الخصم التي نشأت في الأساس لأجل مواجهته. لذا ما تلبث مثل هذه التحالفات أن تنفرط فور مواجهتها لهزات سياسية حادة، كالثورات والحروب، أو صعود التناقضات البينية بينها إلى الواجهة، ما يؤدي، في النهاية، إلى تقويضها سياسياً وانحسار شعبيتها اجتماعياً؛ ولأن هذه التحالفات تأخذ صفة المرحلية، فهي لا تخلق تراكماً سياسياً ووطنياً على المدى البعيد، عدا تحالف "الجمهوريين" الذي نشأ ضد تحالف "الملكيين"، بعد قيام ثورة 26 سبتمبر في ستينيات القرن المنصرم، حيث لم ينشأ تحالف "الجمهوريين" من واقع ضرورة سياسية آنية، وكان ذا طابع حداثي، وحمل مشروعاً وطنياً جامعاً لليمنيين، واستطاع، إلى حد ما، تحقيق نقلة نوعية في الحياة السياسية والاجتماعية اليمنية، واستمر أثره في الحياة اليمنية عقوداً لاحقة.
على غرار ما شهدته بلدان عربية كثيرة من سيطرة ديكتاتورية عسكرية على الثورة، وطوال سنوات حكمه الثلاث والثلاثين، جرّف نظام علي عبدالله صالح الحياة السياسية اليمنية، بما في ذلك إمكانية نشوء توافقات بين القوى السياسية والاجتماعية اليمنية. لم تثمر سياسة القبضة الحديدية لنظام صالح وضربه القوى اليمنية في تطويعها حتى النهاية، فما لبثت سياسته أن شكلت جامعاً لخصومه السياسيين، على اختلاف تناقضاتهم الأيديولوجية، لتشكل تحالف "اللقاء المشترك" الذي ضم أكبر أحزاب المعارضة. نجح تحالف اللقاء المشترك في بداياته في إثراء الحياة السياسية اليمنية، وإدارة المعركة مع نظام صالح، بخطاب "تغليب المصلحة الوطنية" والخروج باليمن من الأزمات العاصفة. انخرط تحالف اللقاء المشترك مع أطياف المجتمع اليمني في ثورة فبراير 2011، وأصبح الممثل السياسي لها، إلا أنه، من واقع كونه تحالف ضرورة، عجز عن استيعاب المتغيرات الجذرية التي أحدثتها الثورة، فالضرورة التي جمعت هذه الأحزاب تحت مظلة سياسية واحدة قبل 2011، لم تعد كافية بعد الثورة، ولم ينجح تحالف اللقاء المشترك في تقديم استراتيجية وطنية لمرحلة ما بعد صالح، إضافة إلى صعود تناقضات بينية بين أحزاب التحالف إلى الواجهة، فتصاعدت الانقسامات والتجاذبات داخل تحالف اللقاء المشترك في المرحلة الانتقالية، وعبرت مداولات الحوار الوطني ومخرجاته عن أداء سياسي انتهازي لأحزاب اللقاء المشترك وانكشاف سياسي، سواءً في أدائها السياسي الانتهازي، أو في رؤيتها للحلول الوطنية التي قاربتها من منظور سياسي ضيق. بسبب انتهاء "الضرورة السياسية" لتشكله والأزمات السياسية العاصفة في المرحلة الانتقالية، بات تحالف اللقاء المشترك ميتاً سياسياً وشعبياً، ومهد الفراغ السياسي الذي أحدثه ذلك المزيد من الإرباك والأخطاء، وصولاً إلى إنضاج ظروف تشكل "تحالف ضرورة" جديد، هو تحالف الحوثيين وصالح.
بتعبيرها المليشياوي وبمساندة قوات تابعة لصالح، أعلنت سيطرة مليشيات الحوثي على صنعاء
عن تقويض العملية السياسية في اليمن، وتغيير صيغة التحالفات بين القوى الفاعلة على الأرض، لتتحول بنيتها من تحالفاتٍ سياسيةٍ مرحليةٍ إلى تحالفات عسكرية، حيث ظهرت ملامح مكتملة لـتحالف الحوثي وصالح، وإنْ لم يتم إشهاره والاعتراف به رسمياً، حيث عمد طرفا التحالف الجديد على إنكار وجوده طوال الفترة التي سبقت السيطرة على العاصمة. اللافت في نشوء هذا التحالف أنه ظرفي، وليس ناتجاً عن ضرورة سياسية، كما كان الحال مع تحالف اللقاء المشترك، وتشكل محور هذا التحالف على الحاجة العسكرية لجماعة الحوثي التي استغلها صالح لإعادة تموضعه في المشهد السياسي الراهن. لذا فهو تحالف عسكري منذ البداية، وعدا فكرة "المقاومة الوطنية للعدوان" التي لم يفلح تحالف الحوثيين وصالح في جعل اليمنيين يلتفون حولها، لم يقم التحالف بإعلان أهداف بصيغة وطنية جامعة، وعبّر أداء هذا التحالف عن مركزية الأهداف السياسية الخاصة بكلٍ من صالح وجماعة الحوثي.
نجح التحالف العسكري بين الحوثيين وصالح، أو تحالف الحرب الداخلية، كما يصفه محللون كثيرون، في التهيئة للاقتتال الأهلي وتعزيز الانقسام السياسي والمجتمعي، كما لعبت كل تحالفات طرفي الصراع في اليمن دوراً رئيسياً في نقل طبيعة التحالفات السياسية من المستوى الوطني إلى الصعيد الإقليمي، إذ بلورت العمليات العسكرية لقوات التحالف العربي بقيادة السعودية (عاصفة الحزم) صيغة التحالفات في اليمن، والتأصيل لطبيعتها الإقليمية، لتصبح التحالفات اليمنية عابرة للحدود الوطنية، وظهرت في الحياة السياسية اليمنية صيغة جديدة للتحالفات، فهناك ما يعرف بحلفاء التحالف العربي أو تحالف الشرعية، وهناك حلفاء إيران. الجدير بالذكر هنا هو تأخر ظهور تحالف شرعية الرئيس اليمني، إذ لم يكن حاضراً منذ انقلاب جماعة الحوثي وصالح على السلطة، ولم يبرز إلا بعد التدخل العسكري السعودي في الحرب اليمنية.
لم تكن التحالفات اليمنية- الإقليمية الحالية التي بلورتها الحرب تحالفات الضرورة السياسية، وإن نشأت على أهداف سياسية آنية، فهي تحالفات عسكرية بامتياز، لا تحتكم لأية معايير وطنية، بل لشروط وأجندات الراعي الإقليمي، الذي لم يعد مجرد مساند للحليف المحلي في حربه لتحقيق أجندته السياسية، بل أصبح الوكيل الإقليمي في هذه التحالفات، وفي الميدان هو اللاعب الرئيس والمتحكم بقواعد اللعبة، لعبة الحرب. وفي تحالفاتٍ كهذه، يخضع الحليف المحلي لمتغيرات الأوضاع السياسية في اليمن وموازين القوى العسكرية على الأرض، إضافة إلى خضوعه لقوانين الساحات السياسية الإقليمية الملتهبة التي تنشط فيها القوى الإقليمية والدولية.
يدخل اليمن "المؤقلم" الشهر العاشر من الحرب بين تحالفات عسكرية تقسم مستقبله بين ثنائية الأضداد المتصارعة والنهايات المجهولة، واليمنيون مقيدون أكثر من أي وقت آخر إلى رهانات تحالفات الحرب العابرة للحدود الوطنية، لا يحتاجون اليوم إلى تحالفات عسكرية، تثقل واقعهم المزري، ولا لأن يصيروا جزءاً من ثارات علي ومعاوية والصراعات الدونكيخوتية بين أتباعهما. يحتاج اليمنيون، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم، إلى تكتل وطني يمني، ينشأ من العمق المجتمعي للكيان الوطني الجامع والإرث التاريخي والحضاري المتنوع لهذا الشعب العظيم، تكتل يصنع السلام الدائم، أي السلام ضرورة سياسية وإنسانية ومعيشية مُلحة.
على غرار ما شهدته بلدان عربية كثيرة من سيطرة ديكتاتورية عسكرية على الثورة، وطوال سنوات حكمه الثلاث والثلاثين، جرّف نظام علي عبدالله صالح الحياة السياسية اليمنية، بما في ذلك إمكانية نشوء توافقات بين القوى السياسية والاجتماعية اليمنية. لم تثمر سياسة القبضة الحديدية لنظام صالح وضربه القوى اليمنية في تطويعها حتى النهاية، فما لبثت سياسته أن شكلت جامعاً لخصومه السياسيين، على اختلاف تناقضاتهم الأيديولوجية، لتشكل تحالف "اللقاء المشترك" الذي ضم أكبر أحزاب المعارضة. نجح تحالف اللقاء المشترك في بداياته في إثراء الحياة السياسية اليمنية، وإدارة المعركة مع نظام صالح، بخطاب "تغليب المصلحة الوطنية" والخروج باليمن من الأزمات العاصفة. انخرط تحالف اللقاء المشترك مع أطياف المجتمع اليمني في ثورة فبراير 2011، وأصبح الممثل السياسي لها، إلا أنه، من واقع كونه تحالف ضرورة، عجز عن استيعاب المتغيرات الجذرية التي أحدثتها الثورة، فالضرورة التي جمعت هذه الأحزاب تحت مظلة سياسية واحدة قبل 2011، لم تعد كافية بعد الثورة، ولم ينجح تحالف اللقاء المشترك في تقديم استراتيجية وطنية لمرحلة ما بعد صالح، إضافة إلى صعود تناقضات بينية بين أحزاب التحالف إلى الواجهة، فتصاعدت الانقسامات والتجاذبات داخل تحالف اللقاء المشترك في المرحلة الانتقالية، وعبرت مداولات الحوار الوطني ومخرجاته عن أداء سياسي انتهازي لأحزاب اللقاء المشترك وانكشاف سياسي، سواءً في أدائها السياسي الانتهازي، أو في رؤيتها للحلول الوطنية التي قاربتها من منظور سياسي ضيق. بسبب انتهاء "الضرورة السياسية" لتشكله والأزمات السياسية العاصفة في المرحلة الانتقالية، بات تحالف اللقاء المشترك ميتاً سياسياً وشعبياً، ومهد الفراغ السياسي الذي أحدثه ذلك المزيد من الإرباك والأخطاء، وصولاً إلى إنضاج ظروف تشكل "تحالف ضرورة" جديد، هو تحالف الحوثيين وصالح.
بتعبيرها المليشياوي وبمساندة قوات تابعة لصالح، أعلنت سيطرة مليشيات الحوثي على صنعاء
نجح التحالف العسكري بين الحوثيين وصالح، أو تحالف الحرب الداخلية، كما يصفه محللون كثيرون، في التهيئة للاقتتال الأهلي وتعزيز الانقسام السياسي والمجتمعي، كما لعبت كل تحالفات طرفي الصراع في اليمن دوراً رئيسياً في نقل طبيعة التحالفات السياسية من المستوى الوطني إلى الصعيد الإقليمي، إذ بلورت العمليات العسكرية لقوات التحالف العربي بقيادة السعودية (عاصفة الحزم) صيغة التحالفات في اليمن، والتأصيل لطبيعتها الإقليمية، لتصبح التحالفات اليمنية عابرة للحدود الوطنية، وظهرت في الحياة السياسية اليمنية صيغة جديدة للتحالفات، فهناك ما يعرف بحلفاء التحالف العربي أو تحالف الشرعية، وهناك حلفاء إيران. الجدير بالذكر هنا هو تأخر ظهور تحالف شرعية الرئيس اليمني، إذ لم يكن حاضراً منذ انقلاب جماعة الحوثي وصالح على السلطة، ولم يبرز إلا بعد التدخل العسكري السعودي في الحرب اليمنية.
لم تكن التحالفات اليمنية- الإقليمية الحالية التي بلورتها الحرب تحالفات الضرورة السياسية، وإن نشأت على أهداف سياسية آنية، فهي تحالفات عسكرية بامتياز، لا تحتكم لأية معايير وطنية، بل لشروط وأجندات الراعي الإقليمي، الذي لم يعد مجرد مساند للحليف المحلي في حربه لتحقيق أجندته السياسية، بل أصبح الوكيل الإقليمي في هذه التحالفات، وفي الميدان هو اللاعب الرئيس والمتحكم بقواعد اللعبة، لعبة الحرب. وفي تحالفاتٍ كهذه، يخضع الحليف المحلي لمتغيرات الأوضاع السياسية في اليمن وموازين القوى العسكرية على الأرض، إضافة إلى خضوعه لقوانين الساحات السياسية الإقليمية الملتهبة التي تنشط فيها القوى الإقليمية والدولية.
يدخل اليمن "المؤقلم" الشهر العاشر من الحرب بين تحالفات عسكرية تقسم مستقبله بين ثنائية الأضداد المتصارعة والنهايات المجهولة، واليمنيون مقيدون أكثر من أي وقت آخر إلى رهانات تحالفات الحرب العابرة للحدود الوطنية، لا يحتاجون اليوم إلى تحالفات عسكرية، تثقل واقعهم المزري، ولا لأن يصيروا جزءاً من ثارات علي ومعاوية والصراعات الدونكيخوتية بين أتباعهما. يحتاج اليمنيون، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم، إلى تكتل وطني يمني، ينشأ من العمق المجتمعي للكيان الوطني الجامع والإرث التاريخي والحضاري المتنوع لهذا الشعب العظيم، تكتل يصنع السلام الدائم، أي السلام ضرورة سياسية وإنسانية ومعيشية مُلحة.