التباعد الأميركي-الأوروبي بعد قمتي بروكسل وتاورمينا: ملامح طلاق في "البيت الأطلسي"

01 يونيو 2017
تبدو المواجهة الأبرز بين ميركل وترامب (محمد علي أوزكان/الأناضول)
+ الخط -

يمكن اعتبار قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، وقمة الدول الصناعية السبع الكبرى في مدينة تاورمينا في جزيرة صقلية الإيطالية، واللتين عُقدتا الأسبوع الماضي، نقطتي تحوّل هامتين في علاقة الاتحاد الأوروبي بالولايات المتحدة الأميركية، إذ تغيرت قواعد سياسية تم التوافق عليها دولياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فشلت لقاءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أوروبا فشلاً ذريعاً في ردم الهوة بين واشنطن، ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ما جعل لهجة انتقاد سياسات ترامب تتصاعد في المعسكر الأوروبي، ومن أبرز عواصمه، برلين، وعلى لسان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

وعلى الرغم من أن الخلاف الرئيسي في قمة حلف الأطلسي يتعلق بالالتزامات المالية "المحقة" التي لم تستجب لها الدول الأعضاء، فيما كان الخلاف في قمة الدول الصناعية حول وثيقة باريس للتغيّر المناخي والهجرة، إلا أن أسلوب ترامب الفج في التعامل مع قادة الأطلسي، وقادة الدول الصناعية السبع الكبرى، جعل التباعد الأوروبي-الأميركي أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، ما انعكس على تصريحات مسؤولين ألمان، مع التفاف قادة الاتحاد الأوروبي حول ميركل.

أولويات ترامب
تختلف أولويات ترامب في أشُهر رئاسته الأولى عن سابقيه، الذين كانوا يحرصون أكثر على تأكيد استمرار سياسات الولايات المتحدة والتزاماتها التاريخية تجاه العالم، وخصوصاً حلفاءها. إلا أن ترامب بشعارات "أميركا أولاً" يدير دفة البيت الأبيض بطريقة لم يعهدها العالم من قبل، خصوصاً في ظل عدم وجود سياسات ثابتة، أو واضحة، يمكن من خلالها فهم توجّهات رجل البيت الأبيض.

ففي الوقت الذي أعاد فيه ترامب الاعتبار لتحالفات تاريخية في المنطقة العربية، من خلال قمم الرياض وزيارة تل أبيب في جولته الخارجية الأولى، إلا أن الأخبار الآتية من بروكسل وتاورمينا تشير إلى أن الأمور لا تسير بصورة جيدة على صعيد التحالف التاريخي الأوروبي-الأميركي.
جعل ترامب مكافحة الإرهاب، والشراكة الاقتصادية السعودية-الأميركية، عنوانَي حضوره الأبرز في قمة الرياض. وهما القضيتان اللتان شغلتا الرئيس الأميركي باكراً في بدايات حملته الانتخابية، ولا تختلف وجهة نظره فيهما عن حلفائه في المنطقة. إلا أن التمسك بأفكاره القديمة حيال العلاقة مع حلف شمال الأطلسي، والتغيّر المناخي، أزّم الأوضاع مع أوروبا، ما يجعل تحالفها التاريخي مع واشنطن على المحك.

شدد ترامب مراراً على "الدفع أولاً" لذا جاءت تأكيداته على أهمية وفاء الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بالحد الأدنى لالتزاماتها المالية-العسكرية والتي تعني إنفاق ما لا يقل عن اثنين في المائة من الناتج المحلي على التسلح، الأمر الذي لا تفي به أغلب دول الأطلسي، خصوصاً ألمانيا، والتي تنفق قرابة 1.7 في المائة من ناتجها المحلي على التسلح سنوياً.
أما نقطة الاختلاف الأخرى، فتتعلق بالتغير المناخي، والذي يراه الرئيس الأميركي "خدعة". لذا رفض في قمة الدول الصناعية تأكيد التزام واشنطن باتفاق باريس للمناخ، والذي توافقت عليه فرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان وبريطانيا مقابل امتناع الولايات المتحدة وحدها. ما جعل الشكوك تتزايد حول إيفاء أميركا بالتزاماتها.


في موضوع اتفاق باريس للتغير المناخي، أشار ترامب إلى أنه سيُصدر قراره النهائي حول الاتفاق لاحقاً، هذا الأسبوع. وكان مستشار ترامب الاقتصادي غاري كوهن قد أكد أن الرئيس الأميركي جاء "ليتعلّم ويصبح ذكياً"، مضيفاً أن "آراءه تتطور"، في إشارة إلى خلافات القمة الصناعية.
التوافق الأهم في قمة تاورمينا كان حول الإرهاب، أما اتفاق الحد الأدنى فقد كان على التجارة الحرة والسياسات الحمائية. في حين أشعل ملف الهجرة خلافاً آخر بين الدول المجتمعة في إيطاليا.

غضب ألماني
هذه الخلافات، لا تبدو كبيرة، مقارنة بأسلوب ترامب نفسه، والذي وصفته بعض وسائل الإعلام الأميركية بأنه يتجوّل في العالم وكأنه "سائح سكّير" على خلفية توبيخه لقادة حلف شمال الأطلسي، وتعامله المتعجرف مع قادة الدول الصناعية الكبرى.
إلا أن الرد على التباعد الأميركي-الأوروبي جاء لاحقاً من العاصمة الألمانية برلين، إذ يُنظر للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل باعتبارها أقوى شخصية سياسية في أوروبا، ويجتمع حولها أعضاء الاتحاد. وتحدثت ميركل عن "أوقات صعبة" وأن "التحالفات القديمة ليست حتمية". إلا أن تصريحها الأهم كان قولها "الأوقات التي كنا نستطيع فيها الاعتماد على الآخرين قد مضت"، في إشارة إلى اعتماد أوروبا على المظلة الدفاعية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية. وأضافت ميركل في تعليقها على نتائج قمة الدول الصناعية: "علينا نحن الأوروبيين أن نجعل قدرنا بيدنا". هذه التصريحات تعد إعلان نوايا حاسماً، لقارة توصف بـ"العجوز" واعتمدت على الولايات المتحدة في العقود الستة الماضية.

لم تكتفِ ألمانيا بتصريحات ميركل، إذ أعقبتها بساعات قليلة تصريحات نارية أخرى لوزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، أكد فيها "عدم وجود دور قيادي لأميركا في الغرب تحت رئاسة دونالد ترامب"، في تأكيد آخر لشعور ألمانيا بأنها باتت "قائدة العالم الحر" بعد انتخاب ترامب، بسياساته الشعوبية ونظرته اليمينية، رئيساً للولايات المتحدة. وقال وزير الخارجية الألماني إن الغرب "بات أصغر الآن" في إشارة إلى التباعد مع واشنطن. واعتبر أن ما يحدث لا يتعلق بفشل قمة الدول الصناعية السبع، وإنما "بتغير في موازين القوى في العالم".
ولا يبدو أن هناك انقساماً في ألمانيا حول أهمية ومحورية الاتحاد الأوروبي، حتى في صفوف معارضي ميركل. إذ أكد الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي، ومنافس ميركل في الانتخابات المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل، مارتن شولتز، أهمية "التقارب الأوروبي" وهو الرد على "النهج الفردي لترامب".

ويرى مراقبون أن فقدان الثقة في أميركا وحلف شمال الأطلسي بدأ باكراً، مع عجزهما عن مواجهة تحركات روسيا في أوكرانيا، وضمّها شبه جزيرة القرم إلى أراضيها. إلا أن تصريحات ترامب الأخيرة تعني أن بقاء الأوروبيين تحت المظلة الدفاعية الأميركية قد يجعلهم مرتهنين لواشنطن سياسياً، أو يوقعهم لقمة سائغة مستقبلاً في يد الأطماع الروسية، أو خطر الإرهاب.
ويُنظر على نطاق واسع إلى سياسات ترامب الأخيرة تجاه الأوروبيين، باعتبارها زعزعة لسياسات أميركية مستقرة تجاه أوروبا، ناضل الرؤساء الأميركيون من أجلها طويلاً، وهي تتلخص ببقاء أوروبا تحت المظلة الدفاعية الأميركية.

وتجنّبت دول أوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية رصد ميزانيات كبيرة لتطوير قدراتها العسكرية، منعاً لسباق تسلح في القارة يعيد مخاطر حربين عالميتين في القرن الماضي، قتلتا وشردتا عشرات الملايين من البشر. إضافة إلى تحوّل معظم الدول الأوروبية إلى نموذج "دول الرفاه" والتي تلتزم بمصاريف أكثر على القطاعات العامة، مثل التعليم والصحة، عكس النموذج الأميركي الذي يُقدّم الحد الأدنى من هذه المتطلبات. ما يجعل الأوروبيين، وإن لم ينقصهم التطور التقني، أقل حماسة لبناء جيوش قوية، أو التحوّل إلى لاعب دولي منفرد عن واشنطن.

دعمت الولايات المتحدة هذه السياسات الأوروبية لعقود، وهو الدعم الذي تُوّج بإعلان واشنطن نفسها لاعباً وحيدا في العالم، مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين. إلا أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وفشل اليمين المتطرف الفرنسي في الوصول إلى الإليزيه في الانتخابات الأخيرة، مع فوز "مرشح بروكسل" إيمانويل ماكرون، في ظل خطر روسيا، والإرهاب، وعدم الوثوق بسياسات ترامب، كل هذه العوامل مجتمعة تدفع الاتحاد الأوروبي للتقارب أكثر من أي وقت مضى، والوقوف وراء ألمانيا، التي تبدو عازمة على "قيادة العالم الحر" بعد التحوّلات التي طرأت على السياسات الأميركية أخيراً في ظل رئاسة دونالد ترامب، وجعلت سياساتها أكثر شعوبية، ويمينية.