البيان رقم 26

09 يوليو 2015
+ الخط -
تابعت بعناية واهتمام بيانات المؤتمر القومي العربي، في سنواته الأولى، وإلى حدود المؤتمر العاشر سنة 2000 في الجزائر. ولم أكتف بذلك، بل أعددت ورقة للمؤتمر المذكور، حاولت فيها تقييم مُحَصِّلَة تجربة عقده الأول. واستأنست خلال سنوات المؤتمر الأولى بلغة بياناته، وحفظت له خلال سنوات انطلاقه، في نهاية القرن الماضي، أدواره في حراسة الخيار السياسي القومي، ونوعية ارتباطه بشعارات ومبادئ المرحلة التي تبلور فيها. إلا أنني بعد ذلك، سَجَّلَت ولوجه دُرُوبَ المحافظة على مبدأ نحن هنا على الدرب نفسه سائرون. ولأن عزف بياناته تَوَاصَلَ بإيقاع منتظم ومُخْلِص لأفُق العروبة، كما تبلور في كتابات المنظِّرين الأوائل، وفي تجارب الأحزاب البعثية، بما لها وما عليها، فقد حرص المتعاقبون على تدبير شؤونه على مبدأ تعزيز موقع الحد الأدنى في زمن التراجعات التي كانت أماراتها قد أصبحت بادية للعيان، وخصوصاً بعد كل الانكسارات التي أَدْخَلَت العراق في الفلك الأميركي، ثم الإيراني، ثم حوَّلَت مدنه ومآثره بعد ذلك إلى خراب. 
انْقَطَعْتُ عن قراءة البيان الذي يكتفي أصحابه بتذكير الأمة بأهداف المشروع النهضوي العربي، من دون زيادة أو نقصان، على الرغم من كل التحوُّلات والانفجارات التي أصبحت، في السنوات الأخيرة، سمةً ملازمة للمجتمعات العربية. وفي غمرة انقطاعي تبيَّنت في الأحداث التي أعلنت سنة 2011 إطاحة أنظمة عربية مستبدَّة وفاسدة، أن المشروع القومي يحضر بقوة في هذه الأحداث التي شملت مجموعة من البلدان العربية، انطلاقاً من إيماني بأن إسقاط الأنظمة المستبدَّة يُمَهِّد الطريق، بصورة أخرى، لمغالبة أحوال التأخر التاريخي العربي، وقد تطلَّعت، في ضوء ما حصل من حراك اجتماعي عربي، إلى أفق في الإصلاح السياسي، يستند إلى المشروع القومي، اعتماداً على زوايا أخرى في النظر وفي الفعل، ووطَّنْت العزم على أن تكون بيني وبين الخيار القومي مواعيد أخرى، من قَبِيل ما حصل ويحصل اليوم في بلدان عربية كثيرة، فقد يَكون مسلك الحَرَاك الاجتماعي في موضوع الحرية والكرامة أقرب إليه من المسالك التي استأنس بها المؤتمر في بيانه السنوي.
وعندما تلقيت بيان المؤتمر رقم 26، الصادر في مطلع يونيو/حزيران 2015، وبحكم ما يجري اليوم في الواقع العربي، من ظواهر معادية للوحدة الوطنية والوحدة القومية، وفي أغلب البلدان العربية، فرأت البيان لأتَبَيَّن الرسالة الموجّهة من المؤتمرين إلى المجتمع السوري خصوصاً، لعلِّي أتعرَّف على كيفيات تقدير المؤتمرين لتحديات الراهن العربي وكيفيات مواجهتها.

ولأنني أفترض أن نسبة كبيرة من المؤتمرين تنتمي إلى الجيل الجديد، بكل ما يحمله من مكاسب جديدة، تُتَمِّم مواقف ومواقع المجموعة المؤسّسة للمؤتمر، والتي حملت على عاتقها ضمن شروط تاريخية محدَّدة، أهداف القوميين العرب وتطلعاتهم بمختلف حساسياتهم الفكرية والأيديولوجية، فقد توقَّعت، قبل القراءة، أن يكون البيان الجديد قد أُعِدَّ بطريقة مختلفة عن نمطية بيانات المؤتمر القومي العربي المعهودة، وهي النمطية التي تملك براعة خاصة، تجعلها تحافظ على مسافة كبيرة مع كل ما يجري من أحداث في المجتمعات العربية، لتحتمي بالمبادئ العامة والشعارات الكبرى، حتى لا تقترب من البؤر والقضايا الصانعة اليوم لأزمة التحول ومخاضاته العسيرة في مجتمعاتنا.
جاءت هندسة البيان في صيغتها المعتادة، نقصد بذلك ديباجة عامة، ثم عرضاً يبدأ بتقييم النظام الإقليمي العربي، وتشخيص معضلاته الكبرى، من دون توضيح لطبيعة الخلَل الذي ساهم في تفكيك أركان هذا النظام وخلخلتها. لينتقل، بعد ذلك، إلى قضايا الراهن العربي، فيتوقَّف أمام مآلات القضية الفلسطينية، ثم يقترب من المجتمعات العربية التي عرفت انفجارات سنة 2011، فيشخص واقع الحال فيها، منتقداً الانتعاش الحاصل في النَّزعات الطائفية والتَّخَنْدُقَات المذهبية، وموضِّحاً العلاقات المتوتِّرة مع المحيط الإقليمي العربي، حيث دخل المشرق والمغرب العربيان في دوامات ودهاليز، لا عهد لمجتمعاتنا بها.
حَرِص المؤتمرون، في بياناتهم، على تجنب التقاطب الحاصل اليوم في أغلب المجتمعات العربية، إلا أن حرصهم ظل شكلياً، ذلك أنهم في العمق يَرْكَبُون دروباً منحازة لأنظمة وخيارات معادية لطموحات شعوبها، المتطلعة إلى تجاوز أنظمة الفساد والاستبداد.
لم يتخلص البيان من منطق تحصيل الحاصل، وهو المنطلق الذي يجعل البيان يخصِّص فقرتين للوضع العربي في سورية، محبوكتين بطريقةٍ، لا يهمها تشخيص العنف والدَّمار والتهجير الذي لحِق المواطن السوري، كما لا يهمها وضع اليد والأصبع على المتاهات المظلمة والتحديات الجديدة التي تواجه الأفق العروبي، اليوم، في كل من العراق والشام. وإذا كنا نؤمن بأن الخيار العروبي الذي نتطلَّع إليه حرية ومواطَنَة، أدركنا ضرورة إسناد رياح التغيير القائمة والمتواصلة اليوم في مجتمعاتنا، والانخراط فيها بالموقف والرأي، حتى لا يقع ما يضاعف الدَّمار الحاصل بتواطؤ أطرافٍ، لم تعد ملامحها خافية على أحد.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".