البوعزيزية المصرية.. احتجاج النخبة والجماهير

29 اغسطس 2018
+ الخط -
لا يخلو أسبوع مصري من مشهدٍ مشابه لمشهد بائع الفاكهة التونسي محمد البوعزيزي، حيث يطرح ربّ أسرة نفسه أمام قطار الأنفاق، أو يلقي نفسه من بناية شاهقة نسبيا، أو يتدلى من فوق لوحة إعلانات مشنوقا، احتجاجا على عدم قدرته على توفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة لأسرته، على الرغم من أنه يعمل مناوبتين، أو على حيلولة ضعف إمكاناته دون تنفيذ هذا الحلم أو ذاك من طموحات حياته. غير أن العام الأخير شهد مسارا بوعزيزيا آخر بين النخبة السياسية المصرية، حيث باتت رموز سياسية تدفع نفسها إلى الاعتقال، بعد الإقدام على إجراء يصل صداه إلى الجماهير. ربما كانت أحدث حلقة في هذا الصدد هي حلقة السفير معصوم مرزوق وأقرانه، في القضية التي تحمل رقم 1305 لسنة 2018.
لا يتعلق الحديث هنا بما يعرفه الإعلام المصري اليوم باسم "اعتقالات العيد"، بل بما هو أبعد، فتقييم صاحب هذه السطور أن تيار إقبال "الحكماء" المصريين على التضحية بـ"الأمن الشخصي" تيار أوسع من "اعتقالات العيد"، يتسع ليضم عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية (70 عاما)، والمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات المصري (65 عاما)، والباحث والإعلامي هشام جعفر، رئيس مجلس أمناء المركز الإقليمي للوساطة والحوار (60 عاما)، والمهندس حازم عبد العظيم، الرئيس السابق لأحد مسارات 
حملة رأس إدارة 3 يوليو لرئاسيات 2014 (60 عاما)، والإعلامي ورجل الأعمال عادل صبري، رئيس تحرير موقع مصر العربية ورئيس مجلس إدارة بيت الخبرة الإعلامي (60 عاما). بل إنه يتسع أكثر ليعبر عن تيارٍ؛ ربما يتضاءل، داخل القوات المسلحة المصرية، على نحو ما بدا في التنكيل بالفريق سامي عنان، الرئيس الأسبق لأركان القوات المسلحة المصرية (70 عاما)! والقائمة تطول، لتطاول رموزا سيقوا إلى السجون التي يتزايد عددها باضطراد منذ 2013، ورموزا تأخر انضمامهم إلى قائمة الدفاع عن مستقبل مصر، مثل السفير معصوم مرزوق (70 عاما)، الأكاديمي يحيى القزاز (62 عاما)، وآخرين. ولهؤلاء الأخيرين وجهت اتهاماتٌ، من قبيل "مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها"، و"تلقي تمويل بغرض إرهابي"، و"الاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جريمة إرهابية".
تراوح أعمار "الحكماء المصريين" بين 58 عاما و72 عاما. ولا يمكن عند التعاطي مع موقف هؤلاء إغفال طبيعة الظروف التي يعيشها المصريون داخل السجون في بلدهم، حيث لا يُسمح بتمرير الدواء للمسجونين على خلفية سياسية، ولا ينظر إلى صحتهم بعين الاعتبار. وتشهد قرارات إحالتهم إلى الفحص الطبي في المستشفيات التي تستقبل المعتقلين تلكؤا واضحا، ما دفع أكثر من منظمة حقوقية دولية إلى فتح تحقيق دولي في ظروف الاحتجاز في السجون المصرية، وخصوصا بعد وفاة أكثر من مائة معتقل، بسبب أمراضهم التي دخلوا وهم مصابون بها إلى سجون "3 يوليو". ومع رصد هذه المنظمات مخاطر تهدد حيوات نحو خمسة آلاف معتقل. في هذا الإطار، يعتبر اتجاه "الحكماء" إلى تعريض أمنهم الشخصي لظروفٍ كهذه من قبيل "التضحية". ومن خلال قراءة ملامح الوضع السياسي المصري، يمكن الخلوص بسهولةٍ إلى أن اختيار "الحكماء المصريين" ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر مردّه تلاشي المجال العام، وانسداد أفق المشاركة السياسية، مع توفر قناعة عامة بأن مآلات الأمور في مصر مظلمة. ويجدر الالتفات إلى أن الحديث عن "التضحية" ليس توصيفا قيميا، بل موضوعيا. وثمّة سوابق عدة، تكشف حقائق توجه إدارة "3 يوليو" حيال المعارضين، فبلوغ المستشار محمود الخضيري 80 عاما، لم يشفع له أمام محتجزيه، وينطبق الأمر نفسه على مرشد جماعة الإخوان المسلمين الأسبق، محمد مهدي عاكف، الذي اجتمعت قوى المعارضة المصرية على طلب تقدّمت به لجهات الاحتجاز للإفراج عنه لدواع صحية، إلى جانب داعي العمر، فقد كان يبلغ ما يزيد عن التسعين عاما ونيف.
وبقدر ما أن الحديث عن "التضحية" موضوعي، فإن الحديث السابق عن أن هذه "التضحية" اختيار وطواعية، وليست قسرية، بمثابة حكم موضوعي كذلك. كان المستشار جنينة يعلم هذه التفاصيل، وهو يدلي بتصريحاته الكاشفة لموقع "هافنغتون بوست العربي"، وعلى الرغم من ذلك، اختار المواجهة. وكذلك كان عبد المنعم أبو الفتوح يعلم أثر انغلاق المجال العام عليه، حال إجرائه حواراته مع قنوات بي بي سي والجزيرة وتلفزيون العربي. وكان السفير معصوم مرزوق كذلك يعلم ما حدث لرموز عسكرية ومدنية سابقة تجاسرت على اقتحام سياج الحظر الذي فرضته إدارة "3 يوليو"، حين تقدّم بمبادرته التي دعت إلى استفتاء على استمرار رأس هذه الإدارة في سدة الرئاسة. وكذلك كان الجيولوجي الأكاديمي، يحيى القزاز، يعلم مدى إمكانية تضرّر أمنه الشخصي مع الهجوم الشرس الذي شنه على إدارة "3 يوليو" في أعقاب اعتقال السفير معصوم مرزوق، بل إن تلامذته طالبوه بتخفيف حدّة لهجة الهجوم، إلا أنه آثر التضحية على غرار صديقه. وكذلك كان هشام جعفر يعلم حينما أصرّ على دفع الأحزاب المصرية إلى استكمال متطلبات حوكمتها، وتعزيز النقد الداخلي فيها. ورفض الإعلامي عادل صبري اللحاق بركب إعلام الصوت الواحد، مستأنفا رؤيته الوفدية الليبرالية التي ترى في الصوت الآخر، المعتمد على المعلومة الكاملة، مدخلا لتأمين مستقبل مصر.
واضحٌ في هذا الإطار أن هناك بعدا آخر لتلك التضحية التي يقدّمها "الحكماء المصريون"، فكما أشير سابقا، سبقت تضحيات هؤلاء الحكماء مساهماتٌ نوعيةٌ أو ذائعة في المجال العام، أثارت جدلا وردود فعل، سواء أكانت هذه التداعيات إيجابية أو سلبية. وقد ساهمت ردود الفعل في منح هذه المبادرات أو المساهمات ذيوعا قويا، وكفلت مجرّد الوعي بها، وضمنت ما هو 
أكثر من ذلك، حيث ضمنت ربط القواعد الجماهيرية بين هذه المساهمات وردود فعل إدارة "3 يوليو" بالغة العنف حيالها. لا أدري أمقصود هذا الذيوع؛ بشقيه السلبي والإيجابي؛ أم أنه محض مصادفة، لكنه أكثر من كافٍ لتحقيق "حالة" وطنية، ربما تغيّاها أولئك "الحكماء" من جرّاء "التعرّض للاعتقال"، وهي إعادة اللحمة والارتباط بين القاعدة الجماهيرية ونخبتها، وهو رابط افتقده المشهد السياسي المصري كثيرا. لم يعد عبد المنعم أبو الفتوح ذلك النخبوي القابع في فيلته، وكذلك الحال في ما يتعلق بمساعد وزير الخارجية الأسبق معصوم مرزوق، أو حتى المستشار هشام جنينة "فاضح الفساد"، بل تحوّلوا إلى طليعة، وساهمت محدودية أفق إدارة "3 يوليو" في تعزيز عملية توثيق النخبة الديمقراطية علاقتها بالقاعدة الجماهيرية، عبر لجوئها إلى المعالجة الأمنية لوضع حسّاسٍ كهذا في هذا الظرف التاريخي الملتهب.
يحتار المراقب، وهذا حال كاتب هذه السطور، هل يمكن اعتبار "اختيار التضحية" نهجا عشوائيا فرديا، باعتبار القيادات التي لجأت لتضحيةٍ كهذه مختلفةٍ جزئيا في رؤاها وأفكارها وخلفيتها التعليمية والمهنية، أم يعتبرها استراتيجيةً عامةً تفضل النخبة الديمقراطية المعارضة، بألوانها المختلفة، لإيقاظ الجماهير، وتنبيهها إلى أن نخبتها تضحّي بأمنها الشخصي، وعرضها السياسي، من أجل تحسين أحوال هذه الجماهير اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا، من باب استعادة المجال العام المغلق حاليا، والذي يفتح بإغلاقه الباب أمام فساد واضطراب قرار، من شأنه أن يعقّد مسيرة مصر نحو المستقبل، غير أن اللجوء إلى هذا التفسير أو ذاك يؤكد حقيقة أن المجال العام تأزّم إلى درجة خانقة، وأن انسداد الأفق لم يترك للنخبة السياسية الديمقراطية المصرية سوى هذا البديل.
9A3BBE72-AAAD-4B9D-93EA-E28776F1B2E2
9A3BBE72-AAAD-4B9D-93EA-E28776F1B2E2
وسام فؤاد

كاتب مصري ومدير التحرير السابق لبوابة مصر العربية، مدير قطاع مصر وشمال أفريقيا في شركة SOCIAL EYEZ المتخصصة في مجال دراسات الرأي العام الافتراضي وتطبيقاتها سابقا.

وسام فؤاد