البورقيبية.. ماضي تونس أم مستقبلها؟

27 ابريل 2017

بورقيبة في باريس.. (15/11/1974/ فرانس برس)

+ الخط -
يطفو موضوع البورقيبية على السطح كلما اشتد الجدل في تونس بشأن تقييم مرحلة ما بعد الاستقلال وما شابها من تجاوزات، خصوصاً في المجالين، السياسي والحقوقي، وفي التفاوت التنموي بين الجهات. فبعد الشهادات التي عرضتها هيئة الحقيقة والكرامة في جلسات الاستماع العلنية لمواطنين تضرّروا زمن الحكم البورقيبي، أثيرت مجدداً الأسئلة بشأن طبيعة منظومة الحكم التي أرسى أسسها الرئيس الحبيب بورقيبة، والرواية التاريخية الرسمية التي بقيت مهيمنةً على الأذهان طوال عقود، تختصر مراحل مهمة من تاريخ البلاد في شخصية الزعيم الأوحد، وتستبعد ذكر شخصيات أخرى، ساهمت في الحركة الوطنية، ثم دخلت الظل لاحقاً وبصورة قسرية.

وما يثير الانتباه في النقاشات التي تغمر المشهد الحالي في تونس أنها أفرزت قوىً حزبية تدّعي الانتساب إلى ما تسميه البورقيبية، وتحاول أن توحي للجمهور أن فترة حكم الرئيس بورقيبة كانت ذهبية، ليس لها نظير، وبنوع من استثارة الحنين والنوستالجيا المبالغ فيها، تتم استعادة صورة الزعيم، وزيارة قبره، والحديث عن مآثره، وصولاً إلى التنديد بكل محاولة لإعادة البحث في إرث بورقيبة، أو مراجعة الفترة التاريخية الحاسمة التي صاحبت مفاوضات الاستقلال وما بعدها. والغريب أن هذه القوى الحزبية التي تدّعي وصلاً ببورقيبة لم يكن لها حضورٌ يُذكر، زمن حكم بن علي، حيث لازمت الصمت في أثناء الفترة التي قضاها بورقيبة، وحيداً محاصراً عاجزاً، في ما يشبه الإقامة الجبرية، من دون أن يرتفع صوت واحد لهؤلاء البورقيبيين الجدد للدفاع عنه، أو المطالبة بمنحه بعض الاهتمام أو الاحترام. وبعيداً عن التفسير السهل الذي يلقي المسؤولية في حالة التجاهل هذه على عاتق نظام بن علي، تثبت الوقائع أن
معظم المنتسبين لما تُسمَّى البورقيبية إنما هم، في الواقع، يحاولون الولوج إلى المشهد السياسي، عبر بوابة الماضي، والنفخ في صورة الحاكم الأوحد لتونس ثلاثين سنة. وبعيداً عن لغة المناكفة والسجالات الهامشية، فإن تقييم مرحلة تاريخية ما تظل، في النهاية، من مشمولات المؤرخين أساساً، وهم يبذلون جهدهم في كشف الغموض، وتجلية النقاط الرمادية التي تشوب التاريخ الرسمي لتونس ما بعد الاستقلال. فلا يمكن لأحدٍ أن ينفي أهمية الحضور التاريخي للرئيس بورقيبة، أو دوره الأساسي في تشكيل ملامح الجمهورية، بوصفه أول رئيس للبلاد، وحاكمها المطلق بغير منازع ثلاثين سنة، غير أن هذا كله لا ينبغي أن يتحول إلى خطابٍ يصادر حق الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الحكم البورقيبي، أو لم تتأثر به، وهي في معظمها ممن عايش زمن استبداد بن علي، وساهم في الثورة عليه، ليس من أجل استعادة ماضٍ تليد مفترض، وإنما كانت الغاية بناء مستقبل مختلف للبلاد التي عانت طويلاً من مساوئ الحكم المطلق، وما صاحبه من قمع سياسي وفساد مالي وتفاوت جهوي كان هو القادح للانتفاض ضد نظام الحكم.
فالقوى التي تحاول الانتساب إلى البورقيبية إنما هي، في الواقع، تعبير عن حالة مرضية مازالت تعانيها الهوية الوطنية في تونس، ورغبة دفينة من أجل تأبيد النفوذ السياسي والثقافي
لجيلٍ تربى في أحضان البورقيبية (سلطة ومعارضة)، ودفع الجيل الجديد إلى مزيدٍ من التخبّط السياسي في صراعاتٍ هامشيةٍ غير ذات معنى، ولا تشكل خطاباً ضرورياً لإنجاح مسار الثورة التونسية. فلم يكن منجز 14 يناير/ كانون الثاني 2011 يوماً مرتبطاً بصيغة إيديولوجية، ولم يكن مطالبة باستعادة البورقيبية، ولا انتصاراً لقوى سياسية مؤدلجة يميناً أو يساراً لفرض توجهاتها السلطوية، بقدر ما كانت محاولةً فعلية للتحرّر من إرث سياسي ثقيل، هيمن على البلاد عقوداً، وهو يحاول اليوم الاستمرار، ويطل برأسه عبر عودة شخصيات من الماضي، لا تجد لها مشروعية في الإنجاز، بقدر ما تقدم نفسها راعيةً لمشروع "حداثي" بورقيبي، أو مشروع دفاع عن الهوية مضاد لبورقيبة في الضفة الأخرى، وفي كلا الرؤيتين اختزال لطموحات الجيل الجديد الذي ما زال يبحث عن حضوره السياسي، وهو اليوم يتحرّك على جبهات اجتماعية متعدّدة، تطالب بالتنمية والتشغيل في مناطق مختلفة، سواء في تطاوين أو في القيروان أو الكاف أو قفصة أو في حراك طلبة كليات الحقوق. فهذه المشكلات الاجتماعية تعيد الخطاب إلى المربع الأول في الثورة التونسية، حينما كان الشعار المركزي "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، وهو حراك شعبي ممتد يتميز بسلميته، وفي الوقت نفسه، هو يلفظ كل محاولة حزبية للركوب عليه.
فالمطلوب اليوم ترك المجال للجيل الجديد، ليتولى إدارة شؤونه، وتحمّل مسؤولية المرحلة، بعيداً عن وصاية العجائز والأحزاب المغرقة في الأدلجة، أو الوافدين الجدد ممن لا علاقة لهم بالممارسة السياسية، ولم يسجلوا حضورهم في المشهد، إلا عبر نفوذهم المالي المكتسب في ظروف مشبوهة.
البورقيبية اليوم، ومهما حرص أصحابها والمنتفعون منها، لا يمكنها أن تقدّم شيئاً لمستقبل تونس، وليس وارداً أن يعود المجتمع إلى مربع حكم الزعيم المطلق والحزب الواحد، كما أن التحولات التاريخية التي دشنتها الثورة، وما رافقها من تحولات في الديموغرافيا (النسبة العالية للشباب) وتحولات في المعرفة (الثورة التقنية وأدوات التواصل الاجتماعي) لن تسمح بمصادرة المستقبل لمصلحة ماضٍ، مهما بدا وردياً في نظر أصحابه.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.