البورتريه

03 فبراير 2015
+ الخط -
لإدخال بعض البهجة إلى قلبها في تلك العشيّة، رحتُ أخبّرها بعض قصصي مع "الرسّام الكبير"، الذي هو أشبه بالأسطورة الحيّة في عالمنا الجبليّ، حيث تنظر إليه الخاصّة والعامّة كرسّام الشرق الأوّل. وقد ربينا، هي وأنا وكلّ جيلنا، كما جيل آبائنا، على هذا الاعتقاد. 
كانتْ كثيرة الاهتمام بمعرفتي الشخصيّة به. كنتُ التقيته وهو في السادسة والسبعين من العمر، بهامته العالية التي لم تنل منها السنون، حين انتقل إلى أوروبا بعد أكثر من ثلث قرن أمضاه في أميركا. نزل أوّل الأمر في لندن، ثم استقرّ في منطقة باريس، قرب مدينة شامبيني على نهر المارن، في بيت من طبقتين محاط بحديقة صغيرة، كان هو منزله ومحترفه معًا، وكنّا نلتقي من حينٍ لآخر حين يحضر إلى مدينة السين. على رغم فارق السنّ بيننا، إذ هو من عمر والدي تمامًا، يكبرني بنحو أربعة عقود، كنّا نبدو كرفيقين ونحن نسير في شوارع الضفّة اليسرى برشاقة، أو نحتسي القهوة في هذا المقهى أو ذاك. كانت تلفتني فيه أمورٌ كثيرة، لكن ما أخبرتُ به عنه ذلك المساء، كان حول غرابة علاقته بالزمن، التي تشبه إلى حدّ بعيد غرابة علاقتي به أنا أيضًا. كأنّ الزمن يمرّ ولا يمرّ. يمرّ في الخارج، ولا يمرّ داخل الذات. مع ما يلي ذلك من التباس في مقاربة الأشخاص والأشياء، وفي النظر إلى الأعمار، ومع هذا الشعور السرّي الدفين بالاحتفاظ بالصبا الأبدي. 
أخبرتها أنّه في أحد الأيام التي حضر فيها من لندن إلى باريس، قبل أن يستقرّ في ضواحيها، كنّا نتمشّى، أنا وهو، في الحي اللاتيني، حين توقّف فجأةً أمام تمثال الشاعر دانتي في حديقة "المعهد الملكي"، وقد أوقعه أحد الهامشيين على وجهه أرضًا. استهجنَ الأمر بشدّة وتساءل غاضبًا بصوت عالٍ: "ما هذا؟ تُرى من فعل ذلك؟ يومَ أمس كان التمثال في مكانه فوق قاعدته". بينما كنّا نتابع سيرنا، انتبهتُ إلى أنّ الرسّام أتى اليوم من لندن، فكيف رأى يوم أمس تمثال دانتي فوق قاعدته؟ سألته عن الأمر، فأجابني قائلاً: "لا أقصد يوم أمس، بل حين كنت طالبًا في معهد الفنون الجميلة في باريس". كان ذلك منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أي قبل خمسين عامًا من مرورنا معًا أمام تمثال دانتي! انفرجتْ أساريرها وضحِكتْ من القلب. 
أخبرتها أيضًا بأنّه رغب يومًا في رسم بورتريه لي، وهو شرفٌ كبير قلّما يوليه أحدًا. قال لي: "لنذهب ونبتَعْ عدّة الرسم من مكتبة شارع سوفلو التي اعتدتها". بعد ذلك ذهبنا إلى بيتي، وطلب منّي الجلوس أمامه ساعة من الوقت ليعمل على البورتريه، فجلستُ، وراح يُحرِّك قلم الرصاص، بثقة ومهارة، على لوحة الورق المقوّى الأبيض التي نصبها بإتقان، كأنّه يقود أوركسترا خفيّة. وبعد أقلّ من ساعة، وضع القلم جانبًا ودعاني لرؤية البورتريه، قائلًا: "أنجزتُ اليوم معظم العمل، وسوف أكمله في جلسة أخرى هذا الأسبوع". شكرته، ثمّ قام مودّعًا ليستقلّ القطار إلى ضاحية شامبيني. 
بقيتُ أنا والبورتريه وجهاً لوجه. وبعد قليل سكنني القلق، واستبدّت بي الحيرة. كانت ملامحي مرسومة بدقّة فائقة. لكن التعبير الذي احتوته لم يرضني. لا يحقّ لي التدخّل في رؤية الرسّام، أيّ رسّام، فكيف رفضُها؟ كانت لي آنذاك لحية سوداء، وبدتْ على وجهي القوّة، وشيء من العبوس، وربما القسوة، التي لا أحبّها ولا تنطبق عليَّ، في نظري. كنتُ أشبهُ في هذا البورتريه إلى حدّ بعيد بعض أدباء النهضة المشرقية أواخر القرن التاسع عشر. حين أفكّر الآن في الأمر، أستغرب كثيرًا موقفي. لا شكّ في أنّ الرسام كان يودّ تكريمي، وإيلاء وجهي صفات القوّة والسلطان، أو كان يراني حقًّا على هذا النحو، وله كامل الحرية في ذلك. أمّا أنا، فكنتُ أفتقد في وجهي صفات الرأفة، والحلم، وروح الطفولة، التي كنتُ أودّ رؤيتها فيه. كان الأمرُ مرّ بسهولة، وكنتُ قبلتُ بالبورتريه كما هو، لِمَ لا، لو لم يكن واضعه هو "الرسّام الكبير" نفسه. قلت في قرارتي: سيكون هذا البورتريه، وليس أيّ رسم آخر، هو الصورة التي ستحتفظ بها الأزمنة القادمة عنّي. إذا كنتُ لا أحبُ التعبير الذي يحمله، فلماذا تُراني أحبس نفسي فيه إلى الأبد، وأضحي أنا هو؟ 
سألتْني باهتمام: "ماذا حدث بعد ذلك؟". أجبتها أنّي وقعتُ في حيرة عميقة، وندمتُ على حماستي في قبول عرضه. خرجت من الشقة وصولًا إلى رصيف نهر السين، حيث أسير طويلًا حين ينتابني القلق، أو يضنيني البحث عن قرار، علّني أجده في صفحة المياه المنسابة ببطء شديد تحت الجسور المرهفة، التي تحوطها خيالات خفيّة، كأنها تعرف ما بي، وتهمس لي بأشياء تنير دربي. وهكذا كان. كنت في طريق العودة، وقد حلّ أوّل المساء، وبانت من بعيد أضواء جسر "بون نوف"، حين تراءى لي أنّي وجدتُ الحل، وهو حلّ غريب حقًا: أقوم بمحو جانبٍ من وجهي في البورتريه بخرقة قماش، وأدّعي أمام الرسّام أني تعثّرت في الظلمة أثناء نهوضي من النوم، ووقعتُ على اللوحة، وكان ما كان. 
حين ولجتُ شقتي تلك الليلة، جلست لوقت طويل أمام البورتريه. غصتُ في مقارنة مضنية بين رؤيتين لوجهي: رؤية "الرسّام الكبير" له، من الخارج، وهي أمامي، ورؤيتي له، من داخل نفسي. كان الوجه هو هو، بكامل ملامحه وأدقّ تقاطيعه. لكن كانت الرؤيتان متعارضتين إلى حدّ بالغ، يتعذّر التوفيق بينهما. وبعد الكثير من التأمّل والتفكير، استعدتُ الحل الذي وصلتُ إليه على ضفة السين، لكن بإلحاح أشدّ. قلتُ: "ما زال هذا البورتريه حتى الآن في عهدتي، لم يره أحدٌ سواي. إذا لم أعمد الآن إلى محوه وإتلافه، فسوف ينتشر لا محالة، وسوف يضحي هو صورتي، التي لا أريدها، على مدى الزمان". بتُّ كأني أمام مارد سيخرج، بعد حين، من قمقمه، ولن يعود لي من سيطرة عليه إلى الأبد. بعدها، اتّجهتُ نحو البورتريه ومحوتُ جانبًا منه بخرقة، ثم محوته، شيئًا فشيئًا، كلّه. ثم جلستُ وتنفّست الصعداء، وغفوت من دون أن أدري، على الأريكة مُنهَكًا، حتى طلوع الفجر. وحين التقيتُ الرسّام بعد أيام وسألني الحضور معه إلى شقتي ليكمل البورتريه، أخبرته بارتباك بما جرى من تعثّر لي ووقوع، واعتذرتُ عمّا أصاب اللوحة، فأجابني باختصار: "أجل، أجل، نترك ذلك ليوم آخر". بعد ذلك، ما عدنا أتينا، لا هو ولا أنا، على ذكر البورتريه. 


المساهمون