البلقنة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي

19 يونيو 2016

اجتماع لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في برلين (31مايو/2016/Getty)

+ الخط -
تحاول دول البلقان الواقعة في جنوب شرق أوروبا توسيع إطار التعاون الإستراتيجي بينها في المجالات كافة، وخصوصاً البنية التحتية ورفع معدّل التبادل الاقتصادي، باعتبار الشأن السياسي حصيلةً للتوجهات الأوروبية ولحلف الناتو الذي تنتمي إليه عديد من هذه الدول. عملياً، لا توجد سياسة خارجية موجّهة وملزمة للدول المعنية، ومعظمها تتبع مساراً يتوافق مع توجهات المركزية الأوروبية في بروكسل، مع ملاحظة استثناءاتٍ محدودة هنا وهناك، اعتمادًا على الحزب السياسي الحاكم في كل بلد، وتتركز الخلافات، بصورةٍ أساسية، بالعلاقة المشتركة مع روسيا.

التحديات الإقليمية
ناقش مؤتمر القمة العشرون لدول منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، في صوفيا، في مطلع يونيو/ حزيران الجاري، قضايا مشتركة عديدة، أهمّها تنويع مصادر الطاقة والتوصّل إلى مصادر أخرى، عدا عن روسيا التي تحتكر هذا القطاع منذ عقود طويلة، والتركيز على شأن تسريع بناء همزات وصل الطاقة المشتركة بين هذه الدول، عملياً تمكّنت بلغاريا ورومانيا من تأسيس همزة مشتركة مؤهّلة للعمل مع بداية شهر يوليو/ تموز المقبل، وهناك جهود مكثّفة لبناء همزة مشتركة مع اليونان وتركيا، لنقل الغاز الأذري في المستقبل. وقد صرّح الأمين العام لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، لامبرتو زائيير، لصحيفة 24 ساعة البلغارية، أنّ هناك مخاطر كثيرة تهدّد جنوب شرق أوروبا، أهمّها اللجوء والإرهاب والإسلام المتطرف الذي يشهد رواجًا في الآونة الأخيرة، نظراً للأحداث التي يشهدها إقليم الشرق الأوسط، ولا يمكن التعامل مع هذه التحدّيات في ظلّ الانقسام الأوروبي ما بين شرقه وغربه. وهذا ما يُلاحظ حتى في قوام منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وأعاد أسباب هذا الانقسام إلى الحصار الاقتصادي والسياسي تجاه روسيا، وتجميد الأزمات إلى أجل غير مسمّى. وأوضح أنّ مشروع توسيع إطار المنظومة الأوروبية و"الناتو" على الجبهة الشرقية أدّى إلى رفع حدّة التوتّر مع روسيا، بلغ حدّ تمكين الكرملين لإيجاد مساحةٍ إقليميةٍ واسعةٍ للتعاون مع الدول المناصرة للسياسة الروسية، الأمر الذي قد يتحوّل إلى معضلة مصيرية للمنظومة الأوروبية، قد تؤدّي إلى فرض اتفاقية "يالطا" جديدة، تهدف إلى تقسيم أوروبا داخل إطارها الموحّد.
وقد أوضح الدبلوماسي الإيطالي ومبعوث الأمم المتحدة لكوسوفو (2008 – 2011)،
لامبرتو زانيير، أنّ مخاطر وجود المقاتلين الأجانب في سورية وتبعاته لم يعد مسؤوليةً سورية فقط، بل مسؤولية باريس ومانشستر وروما وشمال القفقاس وجمهوريات آسيا الوسطى. لذا، هناك ضرورة لوضع استراتيجية طويلة الأمد لمواجهة مخاطر هؤلاء المقاتلين. وقال إنّ الإجابات عن العديد من الأسئلة الصعبة والأزمات التي تواجهها أوروبا متعلقّة عضوياً بالتطورات التي يشهدها العالم الإسلامي. وأشار إلى تطوّر المجتمع في كوسوفو، حيث بدأ الاهتمام ببناء المساجد، ثمّ تركّز على تأسيس المراكز الإسلامية، ما أدّى إلى ظهور مكوّنات ومظاهر غير تقليدية للإسلام، تبع ذلك ظهور توجّهات راديكالية محافظة، وحالة من التوتّر والقلق داخل البلاد، الأمر الذي ترك بصماته وأثره في إقليم البلقان.
أمّا الصفقة التي تمّت، أخيراً، بين أنقرة وبروكسل، فقد جاءت على عجلٍ، من دون دراسة متريثة. ومع هذا، تعتبر الصفقة متأخرةً ومرتبطةً، بصورة أساسية، بالمشكلات التي تواجه أوروبا في الوقت الراهن، وليست نتيجة لسياسة خارجية طويلة الأمد. لذا، تعتبر تركيا الطرف القويّ والرابح في هذه الصفقة. وتدرك أنقرة إمكانية لعب دور مهم في المستقبل، لقدرتها على التحكّم بأفواج اللاجئين فوق أراضيها. أمّا إمكانية رفع التأشيرات للمواطنين الأتراك الراغبين بدخول "فضاء الشنغن"، فالأمر يعود إلى تنفيذ أنقرة الشروط المفروضة عليها، والنسبة المتوقّعة لنجاح تركيا في مطلبها الإستراتيجي هذا تعادل 50%، لكنّ الكفّة ترجّح عدم نجاحها بتحقيق حريّة تنقل مواطنيها بين دول المنظومة، وتواجه أوروبا كذلك مشكلة اللاجئين القادمين من إفريقيا إلى الشواطئ الإيطالية، ومن المتوقع ارتفاع عدد القوارب الوافدة التي ستغرق دولاً أوروبية عديدة باللاجئين، عدا عن إيطاليا.

الأزمة الأوكرانية والمسؤولية الأوروبية
طرح الأمين العام لمجلس الأمن والتعاون الأوروبي، لامبرتو لازنيير، فكرة إرسال بعثةٍ أمنيةٍ مسلّحة إلى شرقي أوكرانيا لحفظ الأمن والسلام في لقائه بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، لكن زانيير سرعان ما تراجع عن هذه المبادرة، بعد أن أوضح لافروف أنّ الانفصاليين في أوكرانيا متردّدون بشأن اتخاذ خطوة مثيلة، ومن الصعب تنفيذ ذلك في الوقت الراهن، ويبقى المجلس على أهبة الاستعداد لتنفيذ كلّ ما تمّ الاتفاق عليه بين الأطراف المتنازعة في أوكرانيا. ولا ترى المنظمة آفاقًا قريبة وسهلة لحلّ أزمة أوكرانيا، والأمور تسير ببطء شديد هناك، على الرغم من أنها أزمة نشطة، ويشهد الإقليم المتمرّد خسائر بالأرواح بصورة متواصلة.
حدّد مؤتمر منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في صوفيا، أخيراً، حقائق متعلقة بالأمن الأوروبي، وأوضح المؤتمرون أنّ الآليات الأمنية الوقائية التي استخدمت في أثناء الحرب العالمية الثانية أكثر فاعلية من المستخدمة في الوقت الراهن، وأوروبا تسير نحو مواجهةٍ، من دون أن تمتلك شبكة واقية. وتتمثل أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ذلك في تمحور القوى العالمية وإمكانية خوض حروب عديدة بالوكالة “Proxy war”، كما في أوكرانيا وسورية، ما أدّى إلى موجات هجرة كبيرة إلى أوروبا. وليست الحروب وحدها العامل الوحيد للهجرة، هناك أيضاً عامل الفقر والتصحّر والجفاف وشحّ المياه الصالحة للشرب والتغيّرات المناخية. وقد أوضح السفير الأردني في بروكسل، يوسف البطاينة، لزانيير أنّ أصول الهجرة السورية إلى دول الجوار والأردن مرتبطة بمشكلات قطاع الزراعة في سورية، ما يدلّ على أن الأمور متداخلة، وليست الحرب العامل الوحيد للهجرة. ويمكن ملاحظة التغييرات العديدة التي طرأت على المجتمع الأوروبي، مثل نموّ المدن والتغيّر الأصولي على االتعاليم الإسلامية في أوروبا تجاه الراديكالية والتطرّف. وتحدّث زانيير كيف كان أهالي كوسوفو يحتفلون بعيد الميلاد ويزورون الكنائس برفقة مواطنيهم المسيحيين، باعتبار ذلك أمراً طبيعياً، لكن الأمور أخذت طابعاً مغايراً في مرحلةٍ لاحقة، وبدأت عملية محمومة لبناء المساجد والمراكز الإسلامية وظهور حواجز غير مرئية بين الأقليات الدينية في كوسوفو، الأمر الذي سيترك أثراً بالغاً في دول أوروبية عديدة، خصوصاً في إقليم البلقان القابل للانفجار، لأسباب إثنية وعقائدية.

مخاطر البلقنة
هناك مخاطر عديدة قد يتعرّض لها إقليم البلقان، حال تراجع (أو غياب) الحضور الأوروبي
الغربي الذي ساهم طويلاً بالحفاظ على الأمن والاستقرار وعلاقات حسن الجوار بين دول البلقان التي شهدت حروباً أهلية عديدة في القرن الماضي، نشب جديدها في تسعينيات القرن الماضي. وقد أصدر تيموتي لِس الذي شغل منصب القنصل البريطاني في بانيا لوكا في البوسنة والهرتسك كتاباً ذكر فيه المخاطر المتوقعة، حال تراجع الحضور الغربي في البلقان، جاء فيه "إمكانية ضمّ البوسنة والهرتسك لصربيا بعد إجراء استفتاء شعبي، كما حدث في شبه جزيرة القرم. ستدعم روسيا هذه التوجهات الانفصالية التي تصب في صالح صربيا، وتفتّ في عضد العالم الغربي، وتوقّع إقدام ألبانيا على توسيع حدودها، وضمّ كوسوفو لتحقيق حلمها التاريخي، بتأسيس دولة ألبانيا العظمى. وتعرّض جمهورية الجبل الأسود لقلاقل وحالةٍ من عدم استقرار، وتهيئة الفرصة لمطالبة الأقلية الصربية هناك بالانضمام لصربيا، وفد تستغل اليونان وبلغاريا الفرصة المتاحة لضمّ أجزاء من مقدونيا". يبدو السيناريو الذي ذكره لِس مأساويًا وغير واقعي، لكنّ العارفين بطبيعة البلقان يدركون إمكانية حدوثه، والبلقنة لعنة لاحقت دول شرق أوروبا فترات طويلة، قبل أن تستقر الأمور نسبيًا، بعد انضمام بعض دولها إلى حلف الناتو وللاتحاد الأوروبي، والالتزام بمعاهدات حسن الجوار شرطاً أساسيّاً للتكامل مع المنظومة الأوروبية.

الأهداف والتوجهات المستقبلية للمنظمة
شهد المؤتمر العشرون لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في صوفيا مشاركةً واسعةً من رؤساء دول الجوار ورؤساء الوزارات ووزراء الخارجية، ومندوبين عن المفوضية والخارجية الأوروبية. وأكّدت المنظمة على ضرورة المحافظة على خريطة حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية الأوروبية وسيادة القانون والحريات عاملاً أساسيّاً للنمو الاقتصادي. كما تناول المؤتمر، بصورةٍ مفصّلة، الإطار السياسي الرئيسي للتعاون الإقليمي وعامل الأمن والاستقرار في دول جنوب شرق أوروبا. وتلعب المنظمة دوراً مهماً كذلك بشأن تكامل دول المنظومة الأوروبية، والمصادقة على اتفاقيات حسن الجوار، المتمثلة برفع مستوى التعاون الإقليمي على الصعد، السياسي والأمني والاقتصادي والتجاري والثقافي، وفي مجال التربية والتعليم.
وأكّد المؤتمر على ضرورة المحافظة على بنود اتفاقية سالونيك المبرمة عام 1997، واتفاقية كريت في وقت لاحق من العام نفسه، وبيان اسطنبول لحسن الجوار والأمن والاستقرار والتعاون بين دول جنوب شرق أوروبا، التي صادق عليها وزراء خارجية الدول الأعضاء عام 1998. وخارطة حسن الجوار في بوخارست عام 2000 وفي مقدونيا من العام نفسه، وفي سكوبي عام 2001 وفي ألبانيا عام 2002 وفي سارييفو عام 2004 وغيرها من الاتفاقيات.
كما تمكّنت المنظمة، خلال العشرين سنة الماضية، من إثبات فعالية الإطار الواعد لتطوير شأن التعاون والحوار البنّاء بين الدول الأعضاء، وحلّ المشكلات العالقة بينها، مثل النزاع بين بلغاريا ومقدونيا بشأن الإرث التاريخي، ورفض اليونان تسمية مقدونيا، باعتبارها جزءًا من المكوّن الجغرافي لدولة اليونان. كما ساهمت المنظمة في تمتين توجّهات التكامل الأوروبي واعتماد الآلية السياسية لضمان الأمن والسلام والنمو الاقتصادي، كما ورد في بنود اتفاقية سالونيك 2003 التي صادق عليها زعماء الحكومات الأوروبية. ويبذل الاتحاد الأوروبي جهدًا كبيرًا لتجنّب وقوع أزمات وحروب أهلية في المنطقة، ويشترط على أيّة دولة ترغب بالانضمام للمنظومة عقد اتفاقيات حسن جوار مع كل الدول المحيطة بها.
ولعب مجلس التعاون الإقليمي المنبثق عن المنظمة دوراً مهماً لتقريب وجهات النظر وتوحيد
الأهداف ودعم التكامل الأوروبي وتنفيذ المشاريع التي تخدم مصالح الإقليم. وتمكّن المجلس كذلك من وضع إستراتيجية تعاون مشتركة حتى العام 2020، لتشجيع النمو الاقتصادي والحدّ من التباين في النمو ما بين غرب أوروبا وشرقها. وتناولت الإستراتيجية طرق مكافحة الأزمة الديمغرافية، ووضع خريطة للدفاع عن حقوق الأطفال وتشجيع النمو السكاني، وتوصّل وزراء العدل للدول الأعضاء إلى اتفاقيةٍ لدعم توجّهات إصلاح قطاع القضاء وضمان استقلاليته، بعيدًا عن التأثير السياسي المباشر للسلطة التنفيذية، كما هو ملاحظ في السنوات الأخيرة في العديد من دول شرق أوروبا التي فشلت في تحقيق عمليات الإصلاح المطلوبة في قطاع القضاء.
ويبذل مجلس التعاون الإقليمي جهودًا مكثّفة لمكافحة التطرّف والعنف والإرهاب، من خلال تبادل المعلومات والبيانات الأمنية وبناء شبكة معلوماتية استخبارية موحّدة لتحقيق هذه الغاية. وهناك مبادرة للاطلاع على قوائم المسافرين على متن الطائرات، للتعرّف على المطلوبين والمشتبه بتورطهم في أعمال إرهابية، أو المرشّحين للقيام بمثل هذه العمليات. وهناك توجّهات لرفع مستوى التعاون الثقافي وتنظيم متاحف مشتركة لعرض الإرث الحضاري والتاريخي لهذه الدول.
انقضت عشرون عامًا منذ تأسيس منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وما زال أمامها مهام كثيرة لتحسين البنى التحتية ووسائل الاتصال والمواصلات بين هذه الدول التي عانت ويلات الحروب الأهلية، وتبعات العداوات التاريخية، وبات من الممكن تخطّيها من خلال انضمام ما تبقّى من دول أوروبا الشرقية في إطار المنظومة الأوروبية.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح