البروباغاندا "الوطنيّة" على شاشاتنا

08 أكتوبر 2014
+ الخط -

مشهدان من الإعلام العربي، أخيراً، يستحقان التوقف عندهما: صورة لموقوفين مكبلي الأيدي في مخيم لاجئين سوريين في لبنان على أيدي الجيش اللبناني، تحوّلت من طرح السؤال حول ما جرى، إلى مباراة في الوطنية على الشاشات اللبنانية، على خلفية تغريدة لمحاور تلفزيوني على قناة الجزيرة. زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، للمشاركة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، تحوّلت إلى مناسبة لدى معلقي الشاشة المصرية لمديح "الريّس"، في استعادة لتقاليد الإعلام المصري في تبجيل الزعيم ومآثره في المحافل الدولية.

يقارب المشهد الأول أن يكون مسرحيةً ساذجةً عن الانتماء الوطني، ومبارزة متلفزة في تسجيل مواقف الشتم والاستنكار. لم نعرف الكثير عمّا وراء صورة الرجال المكبلي الأيدي ورؤوسوهم مدفونة في التراب التي تداولتها وسائط الإعلام الحديث، ولم يجد الإعلام اللبناني داعياً للتقصّي حول خلفياتها: هل قام الجيش اللبناني باعتقالات عشوائية؟ ولماذا؟ أين تقف حدود مكافحة الإرهاب والضرورات الأمنية؟ هل كان توقيف هؤلاء مبرراً بضرورات الحرب التي يواجهها الجيش من إرهابيي داعش، وبهذا الشكل؟ هل القمع هو الرد الأنسب على خطر الإرهاب؟ مَن التقط الصورة ووزّعها؟ أسئلة كثيرة لم يردَّ عليها الإعلام اللبناني الذي اكتفى برواية الجيش للحدث، سواء بمحض التزام بضرورارت "الوطنية"، كما يراها، أو بناءً على إملاءات الجهات المعنية إلى وسائل الإعلام.

المهمّ أن الصورة لم تُثِر حفيظة الإعلاميين اللبنانيين، بقدر ما فعلته تغريدة لمحاور قناة الجزيرة، فيصل القاسم، يسخر فيها من الجيش اللبناني، قفزت إلى مقدمات النشرات الإخبارية، لتصبح الخبر الرئيس في تغطية ميلودرامية، جمعت، في ما جمعت، المقدمات الطنانة إلى نقل تعليقات مثيرة للضحك من حملات "تويتر" ضد المحاور التلفزيوني، وعرض مقتطفات من البرنامج الحواري الجدلي، وخلفيات عن المحاوِر ومواقفه السياسية. وبلغت مليودرامية الحدث ذروتها مع مهاجمة مجموعة من الشبان، أطلقت على نفسها اسم "أوميغا تيم"، مكاتب قناة الجزيرة في بيروت، لمطالبة المحطة بوقف البرنامج، أو تقديم اعتذار، علماً أن القاسم عبّر عن موقفه في تغريدة شخصية، وليس على شاشة القناة. وقد خصّت محطات التلفزة "الحدث" بتغطية واسعة، حتى أن إحدى المحطات أطلقت وصف "الأحرار" على الشبان مهاجمي مكتب "الجزيرة"، باعتبار أن اقتحام مقر محطة إعلامية ضرب من ضروب الوطنية، وانتصار لكرامة الجيش.

بصرف النظر عن الطابع الجدلي للمحاوِر، وبرنامجه الذي بات حلبة للشتائم من الوزن الثقيل، ومدعاةً للتندّر على ثقافة "الحوار" العربية، شكّلت تغطية الإعلام اللبناني لاقتحام مقر محطة إعلامية، بما هو مخالفة للقانون، وتعدٍّ على حرية الإعلام التي نتشدّق بها في لبنان، ليل نهار، نموذجاً جديداً على حالة التسخيف والتعمية عن الوقائع التي يسقط فيها هذا الإعلام، كلما كان الحدث المذكور على علاقةٍ بما يفهمه على أنه "الوطنية"، والتي باتت حجة لكل أشكال التعامي الإعلامي عن استقصاء الوقائع. هل وقع الإعلام اللبناني في فخ "الوطنية"، كما يفهمها، أم أنه استجاب لإملاءاتٍ باتت تحكم التغطية الإعلامية في ما يتعلق بعمليات الجيش الأمنية، أم أن ما شاهدناه على الشاشات كان مزيجاً للعاملَين معاً؟

في المشهد الثاني، صدحت وسائل الإعلام المصرية بالمديح الطنان لأداء الرئيس المصري، في زيارته الأولى للأمم المتحدة. وكانت المشاركة مناسبةً لاستعادة الإعلام المصري طقوسه المعتادة في التبجيل بألمعية "الريّس"، ما يعيد إلى الذاكرة صورة للرئيس المصري السابق، حسني مبارك، لدى مشاركته في محادثات سلام، بخصوص الشرق الأوسط، موّهتها جريدة الأهرام الحكومية، لإظهار "الريّس" مبارك فيها متقدماً الرئيس الأميركي، باراك أوباما، فيما كان في الخلف.
شمل التحليل "المعمّق" لأداء الرئيس المصري الجديد ملاحظات مطوّلة عن رصانة إلقائه، وصفاء صوته، وقوة نبرته، والتي جعلت الوفود المجتمعة، على حد قول معلّقة تلفزيونية، تردّد معه: "تحيا مصر"، في حين "اقشعرَّ بدن" الحكومة المصرية لدى سماعها خطاب الرئيس، وتداول شريط الأخبار على شاشات التلفزة نبأً عن طلب أوباما لقاء الرئيس المصري، إلى ما هنالك من نجاحاتٍ أخرى حققتها الزيارة، بحسب جردة الإعلام المصري... ولا يُعدُّ غريباً أن يطلق هذا الإعلام عنان طقوس التبجيل للرئيس، بعدما توقّع وزير خارجيته، سامح شكري، في تصريحات للصحافة، أن يكون خطاب السيسي بمثابة خطاب المهاتما غاندي إلى الأمم المتحدة.

طبول البروبغاندا "الوطنية" تقرع بقوة على شاشات عربية، ليس في هذا القرع جديد، إنما الإخراج المسرحي الفج له تفوّق هذه المرة في عبثيته...

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.