البرابرة وصلوا يا سنيور كفافيس

26 يونيو 2017
("في انتظار البرابرة 2"، ماريا جيانّكاكي/ إيطاليا)
+ الخط -

لم تكن ثمة ساحةٌ، ولا جمهرات مُنتظرين، يا عزيزي. أما الحديث عن مجلس شيوخ مُعطّل، وعن إمبراطور يستيقظ باكراً ليُعدّ خطبته، فأقرب ـ لا مؤاخذة ـ إلى هلوسات مُحشّش.

كانت الأمُّ قد أقفلت باب الصفيح، على دجاجاتها التسع وزغاليلها الثلاثة وذكر البط الشرشيري، متمنية للجميع السلامة، ثم ولَّوا حفاة نحو الأحراش ـ هيَ وأولادها الخمسة. كانوا آخر المولّين، هم سكان البيت الأول من المخيم. البيت الذي عرّفتهم التجربةُ فيما بعد، أنه يتلقى حماوة السكين كلما جَدَّ الوطيس.

هربوا وفي سوافي الرمال عثروا على جارٍ لهم مع عائلته، فخفّت الوحشةُ.

لن أحدثّك عن العشرة أيام التي بلوا أَمَرَّيها في مخابئهم تحت فروع الأكاسيا. الرمل من تحت أرجلهم يلسع، والسماء من فوقهم تفرقع. فقط أقول لك إن ولد السابعة إلا قليلاً، ذاك، فقد صوته لثمانية أيامٍ وليالٍ من وطأة الجوع (كتبتها "من أثر"، فوجدتها تخون الحقيقة). وكانت هذه مرّته الأولى، (ومن حسن الحظ، الأخيرة). بعدها صار لديه احترام مقدس تجاه أي فتفوتة خبز يصادفها على قارعة الطريق، فإما يأكلها لو كانت نظيفة، أو ينفخ عنها التراب، ويضعها على حجر مخافة أن تدوسها الأقدام (وهو ما يزال يفعل هذا حتى هنا).

وفقط أخبرك أنه كان على تماس مع الموت (لأول مرة أيضاً)، حين عبر من جانب جثة مجنّد مصري، منفوخة وتكاد تتمّزق من ضيق اللباس الداخلي والقيظ الكافر.

حين عادوا، أشباحاً تدب على هواء، لم يكن ثمة قُنصلان ولا أقباء حُمر ومزركشة، ولا بالطبع أساور وحجر كريم وصولجانات من فضة وذهب. فهذه، مع المعذرة مرةً أخرى، هلوسات محششين بالنسبة لهم.

كلا، ثمة أشياء أخرى كانت تُدهش ذوي الطواقي الحمر والوجوه البيض: رقة حالهم، حتى لا كفاف، سوى حفنة طحين مصري غنموه، يتبلّغون بها إلى أن يأتيَ الصباحُ برباحِهِ.

كان البيت مُخردقاً بالرصاص، وجميع الطيور مغتالة تزكم رائحتها الأنوف في صهد الظهيرة.

استكثروا على الأرملة تدابيرَ أيامها، كي تستر زغاليلها هي كذلك.

يومَها، خرج لهم المختار محمد (وهو بالمناسبة عمّي اللزَم)، يتعثر في كلماته الشحيحة، فلم يُسئمهم لا ببلاغة ولا بفصاحة. بل أَبهجهم بالراية البيضاء التي يحبونها دوماً. أما عبْسة وجوه القوم، فلقد زاملت أربعة أجيال، حتى اللحظة، والأغلب أن تستمر إلى أجل غير معروف.
أما هذا الضيق المفاجىء الذي حلّ على الولد، ويسمونه "نفاد الأوكسجين"، فسيرافقه حتى انقطاع النفَس.

لقد عاد الكل إلى داره، غارقاً في المهانة، سوى بضعة رحمهم الله منها، فقاوموا واستشهدوا.
هبط الليل، وبعده ستهبط آلاف الليالي، وهم يستيقظون كل ناصفة ليل أو حواف فجر، فيجدونهم في حوش الدار، أو داخل الغُرف.

الآن، بعد خمسين سنة بالضبط، وفي هذا اليوم الحادي عشر من حزيران، أجلس على شاطىء برشلونة، وأمامي فندق الشراع، وأكتب.

لك أنت أكتب، فقط لأخبرك أن قصيدتك تلك، مذ قرأتها وأنا لا أستلطفها. فلقد وصلوا، منذ سبعين عاماً، منذ خمسين عاماً، منذ وصول الإنكليز. وأبداً لن يكونوا نوعاً من الحل.
ربما لم تنتبه أنت في غفلة الشاعر، لذا وجب التنويه.

البرابرة وصلوا يا سنيور كفافيس.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون