البحر الميت... يموت

20 ابريل 2015
منسوب البحر الميت يواصل الانخفاض (جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
يغري اسم هذه البحيرة التي تُعرف، أيضاً، بأسماء أخرى منها: بحر الملح، البحر المالح، بحيرة لوط (ويمكن أن تربط، في الروايات التوراتية، بسدوم وعمروة)، بالمجاز. ويغري بالشعر. ويغري بالتفكير في ليل البشرية الأول، وبحث الإنسان عن إله يُعبد. للبحر الميت، مثل المنطقة التي تحيط به، رهبة خاصة عند من يؤمنون أن أنبياء التوراة وشعبها عاشوا، ذات يوم بعيد، في فلسطين وليس في شبه الجزيرة العربية، كما أصر على ذلك المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي قالباً "الإجماع" التاريخي رأساً على عقب. فهذا ما تقوله كتب الأديان السماوية، وتفسيراتها، وقصص الأنبياء، وما ندرسه في المدارس والجامعات.
لا يستطيع من يزور البحر الميت أن يتخلّص من تسلّل توراتي إلى ذهنه. وهذا يعني كل منطقة الأغوار التي كانت مسرحاً لأحداث يقول "الإجماع" التاريخي إنها توراتية، من ذلك، بطبيعة الحال، نهر الأردن المغذي الرئيسي للبحر الميت بالمياه الحلوة التي يحتاجها كي يمزج بها مياهه المالحة ويخلق ذلك التوازن العجيب الذي عاش به مئات القرون. فمن يسمع بنهر الأردن ولا يربطه بيوحنا المعمدان وتعميد المسيح في مياهه؟ من يشاهد بحيرة طبرية ولا تخطر في باله أسماك المسيح العجائبية؟ من يقع على اسم أريحا ولا يتذكر أسوارها التي دكّتها "الأبواق" اليهودية في طريقها إلى أرض فلسطين؟ تخطر في البال نبوءة النبي التوراتي حزقيال التي تقول إن بحر الملح (البحر الميت) سيصبح حلواً ذات يوم وعامراً بالأسماك: "وَتَحْيَا كُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ حَيْثُ يَأْتِي ٱلْمَسِيلُ ٱلَّذِي تَضَاعَفَ مَنْسُوبُهُ.‏ وَيَكُونُ ٱلسَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا،‏ لِأَنَّ هٰذِهِ ٱلْمِيَاهَ تَأْتِي إِلَى هُنَاكَ فَتُشْفَى مِيَاهُ ٱلْبَحْرِ،‏ وَكُلُّ مَا يَأْتِي إِلَيْهِ ٱلْمَسِيلُ يَحْيَا.‏ وَيَقِفُ صَيَّادُو ٱلسَّمَكِ عِنْدَهُ مِنْ عَيْنَ جَدْيَ إِلَى عَيْنَ عِجْلَايِمَ.‏ وَيَكُونُ هُنَاكَ مَبْسَطٌ لِلشِّبَاكِ ٱلْجَارِفَةِ.‏ وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَجْنَاسِهِ كَسَمَكِ ٱلْبَحْرِ ٱلْكَبِيرِ كَثِيرًا جِدًّا"! مرَّت على هذه النبوءة ثلاث ألفيات ولم يصطد أحد ضفدعة منه، ولا رأى أحد جسماً حياً يتحرك فيه. بل امتصَّ "شعب التوارة" "المسيل" الذي يغذيه من جذوره!

بكتيريا وطحالب
تبلغ نسبة ملوحة مياه البحر الميت أكثر من 35 بالمئة، أي ما يعادل عشرة أضعاف ملوحة المحيطات، وهذا يعني أن لا حياة ممكنة فيه سوى لبعض البكتيريا ولنوع واحد من الطحالب تمكَّن من التكيّف مع هذه البيئة الملحية الضارية. لا أشجار، لا أعشاب، لا شيء حي يتحرك في مياه هذه البحيرة التي يصل انخفاضها عن سطح البحر اليوم، إلى نحو 400 متر، وهي مستمرة في الانخفاض مع تراجع المياه الحلوة التي تغذيها، هذا فضلاً عمّا سمته الصحافة الاسرائيلية بـSINKHOLE. وهذا هو الخبر الخطير الذي تحدثت عنه في بداية هذه المقالة.
لتراجع المياه الحلوة المغذية للبحر الميت قصة طويلة تبدأ من بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين. فالأرض لا قيمة لها من دون مياه ترويها وتديم الحياة عليها، وهذا ما فكَّر فيه رواد المشروع الصهيوني في فلسطين عندما كان معظم العرب لا يقرأون ولا يكتبون. ففي كتابات لهرتزل حول استيطان فلسطين، هناك خطط للمياه، وكانت للاستعمار البريطاني خططه التي سلّمت إلى الصهاينة. من يراجع "خطط المياه" التي وضعت من أجل زيادة نسبة الأرض الزراعية في فلسطين لاستيعاب 4 ملايين مهاجر يهودي إلى "أرض المعياد"، سيعرف أنها تعود إلى بدايات القرن العشرين، بل إن هناك خططاً وأفكاراً، في هذا الخصوص، ترجع إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. لكن النقطة الحاسمة في حياة نهر الأردن، والبحر الميت بالتالي، تمثلت في تحويل روافد نهر الأردن إلى عمق الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل وصولاً إلى صحراء النقب في الجنوب.

حرب حزيران
هناك أسباب عدة لوقوع حرب حزيران/ يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل. فقد سبق اندلاع الحرب مسلسل من التصعيد العسكري والمواجهات مع الدولة الصهيونية على الجبهات العربية، تحديداً الأردنية والسورية. كانت تلك بدايات العمل الفدائي الفلسطيني والعمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية، في محاولة من قوى المقاومة الفلسطينية الصاعدة انتزاع ملف تحرير فلسطين من أدراج جامعة الدول العربية. أما السبب غير العسكري الذي أسهم في وقوع الحرب التي كانت، كما تبيّن لاحقاً، تخطط لها إسرائيل، فهو مياه نهر الأردن. كان هناك سباق عربي إسرائيلي، منذ مطلع ستينات القرن الماضي، على تحويل مصادر مياه النهر كي لا يستفيد منها الطرف الآخر. وقد أدت خسارة العرب للحرب إلى خسارتهم حرب المياه. أخيراً سيطرت إسرائيل على أعالي مجرى النهر وروافده وأمكن لها تحويله. وهكذا بدأ البحر الميت الذي يتغذى بمياه النهر يعتلُّ.. وينخفض مستوى مياهه بما يقرب من متر سنوياً.

دمعة التمساح
لوحظ، أخيراً، إلحاح من قبل بعض الصحافة "الليبرالية" الإسرائيلية على التردي المتزايد الذي يعرفه البحر الميت، وعلى ما تلحقه صناعات الأملاح والمواد التجميلية المحاذية له من أضرار خطيرة على بيئته، لكن التحذير الذي يشبه قرع جرس الخطر صدر أخيراً عندما لم يتمكن الزوار الإسرائيليون من الاستجمام على شاطئ البحر في عيد الفصح اليهودي بسبب الفجوات التي زادت في البحر ذي الحجر الجيري. فهذا بدأ يتآكل، بسبب تركز أملاح البحر واختلال معادلة مياهه، مُحدثاً تجاويف خطيرة داخله وحوله، وفاتحاً مسرباً للمياه كي تختفي تحت الأرض. اجتهدت الصحافة الإسرائيلية في حلول لهذه الكارثة الطبيعية والبيئية والثقافية ليس منها إعادة ضخ مياه نهر الأردن ثانية، فهذا مستحيل من وجهة نظرها، وليس عن طريق قناة البحر الأحمر المزمع شقّها، فتلك، إن حدثت، تحتاج وقتاً طويلاً، بل من خلال ضخ مياه ملحية مشابهة لمستوى ملوحة البحر الميت التقليدية بواسطة محطة تحلية مياه في خليج إيلات.
ماذا عن الأردن صاحب الإطلالة الأكبر على البحر، وصاحب الشطر الأكبر من النهر الذي امتُصّتْ مياهه؟ هل أخذ علماً بما يجري؟ وماذا ينوي فعله والفجوات تزداد في شطره من البحر؟
المساهمون