البحر المتوسط يجلدنا أيضاً

24 مايو 2015
+ الخط -
من يستطيع لوم الضحايا، لأنهم يسعون إلى الهروب من جلادهم؟ من يستطيع لومهم، وهم يهربون بأطفالهم من الموت؟ من يستطيع لوم الضحايا، وهم يبحثون عن الطرق المستحيلة للوصول إلى الأمان؟ 

كل موت يدفع إلى الهروب، وكلنا يحاول تجنب محرقة تأكل الجميع، وأقل ما يقال في الوضع السوري المستعصي على الحل إنه محرقة لا تشبع في التهام أبناء تلك الأرض. كل حرب تخلق مهجريها، وكلما كانت الحرب أكثر قسوة كان ضحاياها أكثر ومهجروها أكثر. صنع القمع الوحشي لنظام الاستبداد في دمشق أكبر مشكلة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. اليوم، نصف السوريين خارج بيوتهم، وهذا يعني 12 مليون لاجئ، نازحين داخلياً، أو لاجئين خارجياً. ولا نبالغ إذ قلنا إن كل السوريين اليوم إما لاجئ عند آخرين، أو أنه يستضيف لاجئين. وإذا أضفنا إلى هذه المأساة عدد ضحايا القمع والقصف الوحشي الذي وصل إلى ما يقرب من 300 ألف قتيل ومئات آلاف المعوقين، ومئات آلاف البيوت المدمرة، والمدن المحاصرة والمجوعة، فتصبح الكارثة السورية التي أحدثها النظام في بلده أكبر من أن تحصر أو توصف.

كانت بلدان الجوار المستقبل الأول للاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين، لكن استمرار الوضع السوري على حاله، جعل هذه البلدان تضيق على اللاجئين. وتوسع قمع النظام باستخدام أدوات ووسائل أكثر فتكا، قصف الطائرات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي جعل حياة اللاجئين تساوي الجحيم، فلم يعد أمامهم خيارات، أصبحت النجاة تعني كل شيء. وما إن أعلنت الدول الأوروبية أن السوريين والفلسطينيين السوريين فئات تستحق الحماية، بسبب ما يحدث في بلدهم، حتى أصبحت هذه البلدان وجهة كل من يستطيع ذلك، وبكل السبل الممكنة والمستحيلة. عن طريق تركيا مرورا باليونان أو إيطاليا، وصولا إلى الدول المستهدفة، ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية. وموجة كبيرة غادرت من مصر إلى إيطاليا، وصولا إلى الدول المستهدفة في العامين 2013 و2014، أو عبر ليبيا خلال العامين نفسيهما. غادر كثيرون ممن يملكون القدرة المالية، واستدان كثيرون وراكموا الديون على أنفسهم، في محاولة للخروج من دوامة القتل والعوز المستمرة في سورية.

لم يكن البحر رحيما بالسوريين خاصة، واللاجئين إجمالا، فمنذ بدء العام الجاري، لقي 1800 مهاجر غير قانوني مصرعهم غرقا في مياه البحر المتوسط، بزيادة تقارب 20 ضعفا أكثر من العام الماضي، حسب bbc (أعتقد أن الرقم أكثر من ذلك بكثير، لأن الجثث تقريبا تطفو يوميا على السواحل الجنوبية من المتوسط، خصوصاً على الشواطئ الليبية والتونسية، وأعتقد أن الأرقام التي تتحدث عنها bbc تشمل فقط الجثث التي ينتشلها الأوروبيون). هذا على الرغم من زيادة الصعوبات في وجه الهجرة غير الشرعية، فقد تراجعت في مصر، بسبب الإجراءات الأمنية الصارمة على الشواطئ المصرية من جهة، ولمنع السلطات المصرية دخول السوريين والفلسطينيين السوريين الأراضي المصرية منذ حوالي عامين من جهة أخرى، وكان هؤلاء العماد الأساسي للهجرة غير الشرعية من مصر خلال العامين المنصرمين. وتراجعت أعداد الذاهبين عن طريق ليبيا من السوريين والفلسطينيين، بسبب المخاطر الأمنية المتزايدة من ليبيا، وبسبب طول الرحلة التي يضطر فيها بعضهم الدخول إلى ليبيا عن طريق السودان برا، وهي رحلة محفوفة بالمخاطر، وقد قضى كثيرون في الطريق إلى مدينة زوارة الليبية التي تعتبر مركز التهريب في ليبيا. وتزداد أوضاع المهاجرين في تركيا تعقيدا أيضاً، بعد تشديد السلطات التركية الإجراءات الأمنية لوقف هذه الهجرة أو الحد منها على الأقل. وعندما يتم التضييق على المهاجرين أكثر، يزداد استخدامهم لوسائل نقل أقل أمانا من التي كانوا يستخدمونها سابقا.

وفي الوقت نفسه، تزداد شراهة مصاصي الدماء من المهربين الذي يضعون أعداداً كبيرة في زوارق متهالكة، أعداداً تفوق الوصف والتصور، فلا يستطيع ركاب هذه الزوارق المتهالكة التحرك من شدة الازدحام على متنها.
لا تقل تجربة الهجرة غير الشرعية خطراً عن الحرب نفسها، وكل من خاض هذه التجربة، أو خاضها أحد من عائلته، يعرف حجم المعاناة التي تسببها هكذا رحلة محفوفة بخطر الموت الذي يكاد يكون محدقا. ولا شيء يجعل هذه التجربة مبررة سوى إمكانية نجاحها. ففي وقت يخاطر المهاجر مرة واحدة بالموت، فإذا نجح في الوصول إلى بر الأمان، فإن عائلته ستلحق به بعد حين. أما من ينجو في الوطن المنكوب، فهو عرضة، من جديد وفي كل وقت، لخطر الموت، إنه الموت المتربص به وبأحبته، طوال الوقت، عليه أن ينجو في كل مرة، بينما على المهاجر أن ينجو مرة واحدة فقط.

عندما قبض ضابط الأمن المصري، في العام قبل الماضي، على مجموعة من العائلات، كان أولادي وأمهم من بينهم، حاولت مغادرة الأرضي المصرية، عبر رحلات الموت إلى الشاطئ الشمالي للمتوسط، ابني الذي غادر دمشق إلى القاهرة مع أخيه وأمه في 21 / 8 / 2014، في يوم قصف النظام السوري الغوطة الشرقية بالكيماوي، سأل الضابط المصري: لماذا ألقيت القبض علينا؟ قال الضابط: لأحميكم من الموت. ابتسم ابني الشاب ابتسامة مرّة وساخرة، وقال: هربنا من الموت، وأنت تعيدنا إليه، وتقول أحميكم من الموت، أي تفاهة تتحدث عنها؟

عمليا، لم يفعل الضابط المصري، سوى إطالة رحلة أولادي وزيادة كلفتها، فقد أعاد أولادي المحاولة بعد ستة أشهر، عبر ليبيا، لينجحا في الوصول، وكانوا من المحظوظين، لأن غيرهم لم يصلوا، وآخرون تمت سرقتهم ولم يصلوا. إنه التعامل مع العالم السفلي، عالم الجريمة الذي يتجمع فيه أردأ أنواع من المجرمين السفلة. كانت رحلة رعب حقيقية لي ولهم، رحلة لا أتمناها لعدو وليس لصديق.

عندما تُغلق الطرق في وجه البشر، فهم يحفرون الطرق الخلفية، ويحفرون حتى الأنفاق بأظافرهم، ليصلوا إلى الأمان، المضطر يركب الموت، والذي تلاحقه القذائف، سيبقى يحاول العبور إلى شاطئ الأمان، مهما كان الثمن. هناك من المهاجرين من عبر كل أوروبا سيرا على الأقدام، ودامت الرحلة أكثر من عام، لا أتحدث عن حالة نادرة، بل عن حالات كثيرة سارت كل هذه المسافة على أقدامها، بكل الشروط المناخية والطبيعية القاسية. الهروب من الموت يستحق المحاولة، حتى لو اضطر المرء إلى ركوب الموت نفسه، هذا ما فعله ويفعله السوريون والفلسطينيون السوريون الأمس واليوم. وهذا مسار من مسارات رواية النكبة السورية الكبرى.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.